نعم: فن صناعة العوالم
وقف أمام مرآته في تلك الليلة الباردة، يحدّق في عينيه طويلاً كأنما يبحث عن ملامح مفقودة. تراكمت الهزائم في داخله كجبالٍ من غبار، والخذلان يضغط على صدره حتى كاد أن يختنق. سأل نفسه بصوتٍ خافت: ”هل أستطيع؟“
كانت الإجابة تتردّد من أعماق صمته: ”لا، لا تستطيع“.
لكن فجأة، وسط هذا الخراب الداخلي، ارتفعت كلمتان فقط، خفيفتان كنسمة، قاطعتا صخب الخوف: ”نعم أستطيع“. ومن هنا بدأت الحكاية.
هذه الكلمة ليست وعدًا أجوف ولا شعارًا للتحفيز، بل هي الانفجار الصغير الذي يُبدّل مسار إنسان. هي المواجهة المباشرة مع ذلك الصوت الماكر الذي يُحاصرنا بحدود الخوف ويُقنعنا أن المستحيل هو قدرنا.
الإبداع ليس ترفًا، بل هو معركة الحياة ذاتها. معركة تبدأ في أعماق الروح قبل أن تتجسّد على الورق أو القماش أو في أي مشروع يولد من الصمت. العدو الحقيقي ليس النقد ولا الفشل، بل الاستسلام لذلك الهمس الداخلي الذي يهمس: ”لا تستطيع“.
وهنا تأتي الكلمة السحرية: ”نعم أستطيع“.
هي المفتاح الذي يفتح البوابة بين عالمين: عالم القيود وعالم الإمكان. قولها لا يعني وعدًا بالانتصار، بل قبولًا باحتمال الجرح والتعب والخذلان. لكنه يعني أيضًا فتح الباب أمام الدهشة، أمام الخلق، أمام الولادة الجديدة التي تخرج من العدم.
في الفلسفة الوجودية، الإنسان مشروع غير مكتمل، يصنع نفسه بخياراته. كل ”نعم“ واعية تُقال هي لبنة في بناء الذات، وكل ”لا“ استسلامية هي هروبٌ من معركة الوجود. أن تقول نعم لفكرة مجنونة، أو مغامرة مجهولة، أو حبٍّ قد يعرّضك للأذى، هو أن تختار جوهر روحك وصورتها التي ستستمر.
لكن هذه النعم ليست انقيادًا عاطفيًا، بل وعيًا ومسؤولية. هي نعم المحارب الذي يدرك أن دخوله المعركة قد يجرحه، لكنه يعلم أن انسحابه منها هو هزيمة مؤكدة. قيمتها تنبع من صراعها مع ”لا“، تمامًا كما تكتسب الشجرة قوة جذورها من مقاومة الرياح.
”نعم أستطيع“ إذن، ليست مجرد كلمة، بل صلاة الإنسان في وجه صمت الكون، وإيمانه بأن الفعل هو أبلغ جواب على سؤال المعنى.
”نعم أستطيع“ ليست كلمة تُقال، بل بذرة تُزرع في تربة الروح. وحين تشتد الرياح، تُصبح شجرة تُعانق السماء. كل نعم حقيقية هي شروق جديد، وهي المعجزة التي تردّ على صمت الكون بوميض المعنى.