آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

العبقري الهادئ... كيف صنع جميل الجشي مسيرته بين الهندسة والدبلوماسية والثقافة

عاطف بن علي الأسود *

المقدمة

في وطن مثل السعودية، حيث التغيرات سريعة والتحديات متعددة، نحتاج دومًا إلى نماذج تُضيء الطريق. الدكتور جميل الجشي ليس فقط نموذجًا وطنيًا، بل هو قصة نجاح تُجسد روح المثابرة، الذكاء، والتواضع. في هذا المقال، نستعرض رحلته الطويلة والمليئة بالعطاء، التي جمعت بين العقل الهندسي، الحس الدبلوماسي، والعمق الثقافي، ليكون منارة لكل سعودي يسعى للتميز.

النشأة في بيئة عريقة… أصول الحكمة والمعرفة

ولد جميل بن عبدالله الجشي في عام 1360 هـ في جزيرة تاروت، وهي إحدى الجزر التي تتمتع بتاريخ حضاري يمتد لآلاف السنين، ما أضفى على نشأته طابعًا خاصًا من الفهم الثقافي والوطني العميق. نشأ في أسرة لها حضور اجتماعي بارز، إذ كان والده عمدة تاروت، موقعًا اجتماعيًا حمل معه مسؤوليات ثقيلة وواجبات تجاه المجتمع.

كانت البيئة العائلية محاطة بحلقات النقاش والتوجيه الاجتماعي، مما ساعده في صقل مهاراته الفكرية والاجتماعية منذ الصغر، وبات يعرف كيفية الاستماع، الحوار، واتخاذ القرارات بحكمة.

بدأ تعليمه في الكتاتيب، حيث حفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بأول مدرسة ابتدائية في القطيف، وأظهر تفوقًا ملحوظًا. كان يختلف عن أقرانه بفضوله الدائم وحبه للاستفسار، وهذا الأساس شكل لاحقًا مهاراته التحليلية.

التعليم العالي… رحلة البحث عن التخصص الأمثل

في الستينيات من القرن الماضي، أتيحت له فرصة الالتحاق بشركة أرامكو السعودية، والتي كانت بوابة الدخول إلى عالم أكبر من المعرفة والتطور التقني. أُرسل إلى الولايات المتحدة للدراسة في جامعة ”ليهاي“، حيث بدأ بدراسة الهندسة الكيميائية، ولكنه سرعان ما أدرك أن الهندسة الصناعية تمثل التخصص الأكثر ملاءمة لطموحاته، حيث تجمع بين الجوانب التقنية والإدارية.

نال شهادة الماجستير والدكتوراه من جامعة ”بتسبرج“ في الهندسة الصناعية، ليصبح أول سعودي يحمل هذا التخصص، وهو ما يؤكد رغبته العميقة في التميز والريادة. عُرف خلال دراسته بدقة التحليل، وحل المشكلات، ونهج البحث العلمي المنهجي.

مرحلة العمل الدولي… بوابة النجاح والتميز

انضم إلى منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية «UNIDO»، حيث لم يكن مجرد موظف بل كان مدير إدارة الأبحاث الصناعية، ليكون أول سعودي في هذا الموقع، وهو منصب يعكس مدى ثقته العلمية والعملية من قبل المجتمع الدولي.

شهدت هذه الفترة توسعًا في آفاقه المهنية، وتعمقًا في فهمه لكيفية إدارة المشاريع الكبيرة، وحل المشكلات الصناعية والتنموية في بيئات متعددة، مما أكسبه مهارات دبلوماسية ومهنية على أعلى مستوى.

مساهماته الوطنية… من الهندسة إلى التنمية الصناعية

عاد إلى وطنه محملًا بخبرات دولية، وشغفًا لخدمة بلده، حيث شغل مناصب محورية كان لها أثر كبير على تنمية المملكة الصناعية والاقتصادية، من بينها:

• نائب مدير عام الهيئة الملكية للجبيل وينبع، حيث كان له الدور الأساسي في التخطيط والتنفيذ لمشاريع البنية التحتية والصناعية، مما عزز من مكانة السعودية كقوة صناعية إقليمية.

• نائب محافظ المؤسسة العامة للكهرباء، حيث ساهم في تطوير البنية التحتية الحيوية.

• وكيل وزارة الصحة للتخطيط والتطوير، معززًا النهج الإداري الحديث في القطاع الصحي.

• المدير العام للشركة العربية للاستثمار، حيث قاد عدة مشاريع استثمارية استراتيجية.

• مؤسس مكتب الاستشارات الصناعية في المنطقة الشرقية، لنقل الخبرات الصناعية والمعرفية إلى القطاع الخاص.

كانت جميع هذه الأدوار فرصة لتطبيق ذكائه العملي، ورؤيته المستقبلية في خدمة التنمية الوطنية المستدامة.

المناصب التي تألق فيها الدكتور جميل الجشي: سجل حافل بالإنجازات والريادة

على مدار مسيرته المهنية الطويلة، تقلد الدكتور جميل الجشي العديد من المناصب الإدارية والتنفيذية والدبلوماسية التي عكس من خلالها ذكاءه وحنكته في الإدارة والقيادة، وساهمت بشكل كبير في تقدم المملكة على عدة مستويات:

مدير إدارة الأبحاث الصناعية في منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية «UNIDO»

كان الدكتور الجشي أول سعودي يشغل هذا المنصب العالمي، حيث أدار مشاريع تطوير صناعية في مختلف الدول، وشارك في وضع سياسات تنموية لتحفيز الصناعات في دول نامية، مما أكسبه خبرة دولية رفيعة المستوى ووسع آفاقه المهنية.

مدير عام الهيئة الملكية للجبيل

من المناصب المحورية التي ساهم فيها في تأسيس وتطوير أول مدن صناعية متكاملة في المملكة، حيث لعب دورًا رئيسيًا في التخطيط والتنفيذ لمشاريع البنية التحتية والصناعية، مما عزز من مكانة السعودية كقوة صناعية إقليمية.

نائب محافظ المؤسسة العامة للكهرباء

ساهم في تطوير منظومة الطاقة الكهربائية، وهو قطاع حيوي لتشغيل الصناعات والمدن، مما كان له أثر مباشر على تقدم البنية التحتية الوطنية.

وكيل وزارة الصحة للتخطيط والتطوير

قاد جهود تخطيطية لتحسين جودة الخدمات الصحية، ورفع كفاءة الإدارة في القطاع الصحي، مؤكدًا على دمج الإدارة الحديثة مع الخدمات الطبية لضمان التنمية المستدامة.

المدير العام للشركة العربية للاستثمار

شغل هذا المنصب القيادي حيث أدار استثمارات استراتيجية وأسهم في توسيع نشاطات الشركة، وعمل على تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية في المنطقة.

مؤسس مكتب الاستشارات الصناعية بالمنطقة الشرقية

أسس مكتباً استشارياً متخصصًا في تقديم الحلول والخدمات الصناعية، مما ساهم في رفع مستوى الكفاءة الصناعية في المنطقة، ودعم نمو القطاع الخاص السعودي.

عضو مجلس الشورى لدورتين متتاليتين

كان صوت الحكمة في المجلس، حيث شارك بفعالية في صياغة السياسات، والتشريعات، وكان له دور بارز في دعم القضايا الوطنية والتنموية، متيحًا المجال للاستفادة من خبراته العملية والثقافية.

سفير المملكة العربية السعودية لدى إيران «1999-2002»

شغل هذا المنصب الدبلوماسي الحساس في وقت كان يتطلب حنكة كبيرة، إذ نجح في إدارة العلاقات بين البلدين بحكمة، وعمل على تهدئة التوترات، وفتح آفاق للحوار البناء، مما جعل منه رمزًا للسلام والذكاء الدبلوماسي.

الإنسان المثقف… حارس التراث والشاعر العاشق

لم يكن الدكتور جميل الجشي مهندسًا إداريًا ودبلوماسيًا فحسب، بل كان مثقفًا حقيقيًا.

أصدر كتابًا وثائقيًا بعنوان ”تراث الأجداد“ جمع فيه وثائق تاريخية لعائلته وأهالي المنطقة، مؤكدًا على أهمية حفظ الهوية والتاريخ في زمن التغيرات السريعة.

كتب الشعر، واحتضن الأدب العربي بكل حواسه، وكان مجلسه الأدبي مكانًا للتلاقح الفكري وتبادل الأفكار.

الختام: نموذج وطني مشرف… عبقري هادئ أثر في وطنه

الدكتور جميل الجشي يمثل نموذجًا وطنيًا مشرفًا في كل معنى الكلمة:

• عقل عملي قادر على التخطيط والتنفيذ.

• دبلوماسي حكيم يعرف كيف يدير العلاقات الدولية.

• مثقف يحافظ على هويته ويرسخها عبر الأجيال.

مسيرته الطويلة تحمل دروسًا في الاجتهاد، الذكاء، والوفاء للوطن، وترك إرثًا حقيقيًا نفتخر به جميعًا.


دراسات عليا اقتصاد صحي