هبَّة اليوم… ندم الغد
لدينا - نحن البشر - حماس مندفع يبدأ سريعًا وينتهي بأسرع ممَّا بدأ. وأحيانًا تنتشر بيننا ظواهر يطلق عليها حاليًا كلمة ”الهَبَّة“؛ موجة مفاجئة تجتاح المجتمع نحو أمرٍ ما، سواء كان مطعمًا جديدًا يفتتح أبوابه، أو سيَّارة يكثر الحديث عنها، أو تصميم منزل تنتشر صوره في وسائل التَّواصل، أو اقتناء أشياء ثمينة بهدف التَّفاخر، أو السَّفر إلى بلد معيَّن؛ لأنَّه أصبح حديث المجالس، أو التَّعاقد مع أشخاص معيَّنين في حفلات الزَّواج - خاصَّة ما يخص النِّساء - لمجرَّد أنَّهن أصبحن ”موضة“ المرحلة، أو شكلُ ولونُ عباءة النِّساء حين يتحوَّلان إلى موجة عابرة، ثمَّ يُكتشف لاحقًا أنَّ الاختيار لم يكن قائمًا على قناعة أو تميُّز حقيقي؛ بل على مجاراة ظرفيَّة سرعان ما تزول. أو الاشتراك في صالة رياضيَّة بحماس كبير في البداية، ثمَّ الانقطاع بعد أسابيع قليلة. وهذه الظَّواهر غالبًا ما تكون وقتيَّة، وبمجرَّد أن نرى غيرنا قد فعلها، نشعر أننا مطالبون أن نفعلها نحن أيضًا، وكأنَّها واجب اجتماعي غير مكتوب.
المشكلة إنَّ هذا الحماس لا يُبنى على قناعة شخصيَّة ولا على دراسة حقيقيَّة للجدوى؛ وإنَّما على رغبة في اللحاق بالرَّكب أو الخوف من أن نبدو متأخرين عن الآخرين. فتجد الشَّخص يندفع بحماس شديد، ويخصص وقته وماله وطاقته، ثمَّ ما إن يبرد الجو أو تخفت الأضواء حتَّى يتراجع وينسحب، تاركًا خلفه مشروعًا ناقصًا أو تجربة لم تكتمل.
ولو تأمَّلنا في حياتنا اليوميَّة سنجد عشرات الأمثلة: شخص يسجِّل في دورة تدريبيَّة بكلِّ حماسة ثمَّ ينسحب سريعًا، وآخر يبدأ مشروعًا تجاريًا مقلّدًا لغيره ثمَّ يغلقه عند أوَّل خسارة، وثالث يشتري أجهزة أو أدوات لمجرَّد أنَّها ”الموضة“، لتتحول لاحقًا إلى زينة على الرفوف. وفي العمل التَّطوعي أو القضايا المجتمعيَّة، نرى الحماس المندفع أوضح؛ فكم من شخص شارك في حملة أو فعَّاليَّة ثمَّ اختفى بعدها تمامًا، وكأنَّ وجوده كان مرتبطًا بالصُّورة لا بالفعل.
هذا النَّمط من السُّلوك قد يكلِّف صاحبه كثيرًا:
• مال يُصرف على أشياء لا حاجة لها.
• وقت يضيع في تجارب لم تُخطط جيِّدًا.
• سمعة تتأثَّر حين يتَّضح أنَّ المشاركة لم تكن عن قناعة؛ بل عن تقليد مؤقت.
والأخطر حين يكون الاندفاع في قرارات مصيريَّة أو التزامات طويلة الأمد، مثل بناء منزل بلا دراسة كافية، أو الدُّخول في قروض مصرفيَّة تثقل كاهل الأسرة لسنوات طويلة بسبب قرار اتُّخذ في لحظة حماس.
ولأن المشكلة واضحة في مجتمعات يغلب عليها التَّقليد السَّريع، فإنَّ الحلَّ يكمن في التَّريث والتَّفكير الواعي قبل الانخراط في أي ”هَبَّة“؛ إذ المطلوب أن نتعامل مع كلِّ جديد بميزان العقل، لا باندفاع اللحظة. وعلينا أن نتأنى في كلِّ ما نرغب في اقتنائه أو المشاركة فيه؛ لأنَّ كثيرًا من هذه الموجات لا تعدو أن تكون فكرة عابرة وُلدت بلا دراسة أو رعاية. وقد لا يتجاوز عمرها الافتراضي أيَّامًا معدودة أو بضعة أشهر، ثمَّ ما تلبث أن تختفي وكأنَّها لم تكن.
ولكي نجنِّب أنفسنا ”ندم الغد“، هناك بعض السلوكيات التي يمكن أن تساعدنا:
• التَّفكير قبل التَّقليد، بأن نسأل أنفسنا: هل ما أُقبل عليه حاجة حقيقيَّة أم مجرَّد مجاراة للآخرين؟
• التَّدرج بدل الاندفاع: وذلك بتجربة الشيء بحدود معقولة قبل أن نتورط فيه بالكامل.
• التَّمييز بين الموضة والجدوى: ليس كلُّ ما يلمع ذهبًا، وما يتبناه الجميع لا يعني بالضَّرورة أنَّه مناسب لنا.
• إعطاء القرار وقته: الهبَّات تعيش على سرعة الاندفاع، لكن قرارًا مؤجَّلًا يومًا أو يومين قد يوفِّر شهورًا أو سنوات من النَّدم.
• النيَّة الواعية: إذا دخلنا تجربة عن قناعة راسخة، حتَّى لو لم تنجح، فإنَّها تكون خبرة، لا ندمًا.
إنَّ الحماس في حدِّ ذاته ليس مشكلة؛ وإنَّما طاقة إيجابيَّة إذا وُجّهت بالشَّكل الصَّحيح. لكنه يصبح خطرًا حين يكون مثل عود الثقاب: يشتعل بسرعة، ثمَّ ينطفئ قبل أن يُدفئ أحدًا؛ ولذلك، فإنَّ المجتمعات التي تتطور ليست تلك التي تقفز من ”هبَّة“ إلى أخرى؛ بل التي تعرف كيف تحوّل الحماس اللحظي إلى التزام مستمر، وتستثمره في أهداف واضحة مدروسة تترك أثرًا حقيقيًا.
ومن هنا: ربما علينا قبل أن نركب موجة جديدة أن نسأل أنفسنا:
هل أنا مقتنع حقًّا بما أقدم عليه؟
هل أستطيع الاستمرار فيه بعد أن تخفت الضَّجَّة؟
الإجابة الصَّادقة عن هذه الأسئلة قد توفر علينا كثيرًا من النَّدم، وتجعلنا نتعامل مع ”هبَّات“ اليوم بوعي لا يحوّلها إلى أعباء الغد.