آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

سيرة وطن في قلب رجل: عبدالله الحصار ”أبوفهد“.. من ظل النخيل إلى سماء الوطن

عماد آل عبيدان

القديح، حيث لا زالت تعبق الأزقة برائحة الطين، وتُحاكي النخيل ذاكرة الذين مرّوا من هناك، يعيش رجل لا يشبه إلا الأصالة… رجل ما كان عابرًا في أيام الناس فقط، لكنه أضحى علامة في دفتر الزمن.

إنه عبدالله بن إبراهيم الحصار المعروف والمشهور بـ ”أبو فهد“، الذي لم يحتج إلى منصب ليكون وجيهًا، ولا إلى صخب ليكون مسموعًا. اكتفى بأن يكون كما هو: قدّيحيًّا من جذور النخل، عسكريًّا لا يُقاس بانضباطه وإنسانيته التي لم تتزحزح رغم الرتب.

فلاح يتيم… بدأ ”مُلّا“

كانت البداية صعبة… فقد فَقَد عبدالله الحصار والده صغيرًا، وتربى في كنف أخيه الأكبر الحاج أحمد، الذي كان له أبًا وسندًا. وكأن اليُتم المبكر زرع في داخله حسّ المسؤولية مبكرًا، فجاءت حياته مشبعة بالجد، والكرامة، والكفاح.

في بلدة القديح، حيث البيوت متلاصقة والقلوب أكثر تماسكًا، نشأ أبو فهد، تلميذًا في كُتّاب البلدة، ثم مُلّا صغيرًا يُجيد التلاوة، يُعلّم الصغار حروف القرآن، ويسير على خطى السكينة والسكوت المفكر.

من الوادي إلى الجو… ومن القديح إلى الوطن

لكن القديح لم تحتوِ طموحه طويلًا. التحق بالسلك العسكري في قوات الدفاع الجوي الملكي السعودي، في وقت لم يكن فيه أبناء القطيف يُعرفون في هذا الحقل. بدأ حياته العسكرية وكيل فني، وتدرج حتى بلغ رتبة مقدّم متقاعد، متنقّلًا بين القواعد العسكرية، يحمل معه دفء القديح أينما حلّ.

ولم تغيّره البزّة العسكرية. ظلّ هو نفسه، الإنسان الذي يتّسع للناس، للمجالس، للصمت الناطق بالوقار. ظلّ أبو فهد ”أخو الجميع“، كما يحب أن يصفه أهله.

امرأة صبورة… وشروط مكتوبة

في العام 1972 م، اقترن بابنة من بنات القديح، امرأة رفضت أن تترك الجذور، ووقفت إلى جانبه كما تقف الجبال. حين ابتُعث إلى أمريكا عام 1974 م، اختارت ألا ترافقه، احترامًا لتعهد ضمنه أبو فهد في شروط الزواج. بقيت في القديح، ترعى أول مولودة، فيما مضى هو لاستكمال مهمته.

وحين تكررت فرصة الابتعاث، وكانت العائلة قد كبرت، خالفت قرارها الأول، وانطلقت معه نحو الغربة، مؤمنة بأن الانتماء لا يمنع الطموح، وأن البيت يُبنى في قلوب الناس لا في جغرافيا المكان.

رزقهما الله بـ 11 مولودًا، ثلاثة أولاد وثماني بنات، كأنما حياة واحدة لا تكفي ليحمل كل هذا العطاء.

بدر الحصار… نجمٌ أفل مبكرًا

ومن بين أبنائه، سطع نجم المهندس بدر عبدالعزيز الحصار، زوج ابنته هبة. كان شابًا لامعًا، مديرًا لتطوير شبكة الجوال في شركة STC للمنطقتين الوسطى والشرقية، لكن الموت اختطفه في 2 أكتوبر 2019 م، مخلفًا وجعًا نبيلًا. وقف أبو فهد يومها صامدًا، شاكرًا، يقبّل تعازي الناس واحدًا تلو الآخر، كأن فقد الأحبة امتحان لا يُجاب عنه إلا بالصبر.

الكاميرا والذاكرة… والعشب الذي كبر

أبو فهد هو رجل يعيش على الذكرى وصانع ذاكرة. في شبابه، عمل في شركة كهرباء القديح، وهناك، امتلك أول كاميرا له، سجّل بها وجوه الناس، وزوايا البيوت، وملاعب الطين.

في نادي مضر، كان مشرفًا رياضيًّا بين أعوام 1396 هـ و 1399 هـ، ومؤسس من مؤسسي ملاعب كرة السلة والطائرة واليد، وأدار برنامجًا للهواة لا يزال صداه يُسمع حتى اليوم. كان يؤمن بأن الرياضة لعبة، وصيغة أخرى للحياة.

وكان من أوائل من آمنوا أن القديح تستحق أن تُوثق، فوثق. بصوره، بأحاديثه، ببرنامجه الجميل ”تعرف على معالم بلدك“ الذي جال فيه بأحيائها ومساجدها وعيونها، وكان يُشير إلى كل زاوية بإصبع الحب.

في المجالس… حيث يسكن الوقار

مجلسه كان مفتوحًا كقلبه، يدخل إليه الصغير قبل الكبير. يعرفه الناس بالبسمة، بالتواضع، وبالهيبة التي لا تصطنع نفسها. لم يكن خطيبًا، لكنه حين يتكلم، تشعر أن الحكمة تُخرج رأسها من بين الحروف. يقول:

”لا ترفع صوتك… ارفع مقامك. كن طيبًا… فالناس لا تنسى الطيبين.“

لأن العظماء لا يصرخون

من خلال سيرة الحاج عبدالله الحصار، تتجلّى حكمة قديمة: العظماء لا يصرخون. هو لم يطلب يومًا تكريمًا، لكنه كُرّم في القلوب. لم يسعَ إلى أن يُذكر، لكنه لم يُنسَ أبدًا.

سيرة رجل… وسيرة وطن

الحاج عبدالله لم يكن مجرد رجل… كان صورة مصغرة من وطن ينبت فيه الطيبون. من اليتيم الذي بدأ حياته ”مُلّا“، إلى المقدم الذي خدم الوطن دون أن ينسى بلدته، إلى الصديق الذي ما خذل أحدًا… كانت حياته رسالة، وما زال صوته يقول:

”في القديح، لا يموت التاريخ… بل يتحول إلى ظل نخلة، أو صورةٍ باهتة… أو سيرة تُروى كلما غاب صخب الدنيا.“