رشوة الراهب
حين أستمع إلى مشاهد مسير السبايا وخُطب أهل البيت في الطريق بين الكوفة والشام، بصوت المرحوم عبدالزهراء الكعبي الشجي، تتفاعل مشاعري ومخيلتي مع كل كلمة، بل مع كل حرف يُقال.
وتنتابني رغبة ملحّة في تسليط الضوء على هذه الجزئية أو تلك، وتشتعل في ذهني تساؤلات: كيف أعالجها لو كتبت عنها؟ كيف أُفكّك دلالاتها؟
لكنني سرعان ما أردع مخيلتي، وأُذكّر نفسي بأن وقت الاستماع ليس وقت تحليل أو تفكيك، بل هو وقت حزن وتفاعل وجداني مع مصاب أهل البيت .
فينبغي أن أكون حاضر القلب والخاطر، لا شارد الذهن في جزئيات تفصيلية، مهما كانت مغرية للتأمل أو الكتابة.
ومع ذلك، لا أرى في شرود الذهن عن الحزن خروجًا عنه، بل امتدادًا له.
كما أن الإمام علي ، حين تصدّق بخاتمه وهو راكع [1] ، لم يلتفت عن صلاته، بل التفت بها إلى الله؛ انتقل من صورة عبادة إلى أخرى، ومن خلوة إلى تجلٍّ، فكان فعله ترجمة للخشوع، لا انقطاعًا عنه.
وهكذا أرجو أن يكون تأملي في كلمات المصاب، لا انصرافًا عنه، بل انغماسًا فيه بلغة أخرى.
أما ما استوقفني هذه المرة من مشاهد مسير السبايا، فهو مشهد عرض الراهب المسيحي مبلغ عشرة آلاف درهم لقاء مبيت الرأس الشريف ليلة واحدة [2] .
فهل يُصنّف هذا الفعل على أنه رشوة دفعها الراهب إلى الجنود، ليتساهلوا في أمرٍ جلل، بحوزتهم عهدةٌ مطلوبةٌ تسليمها إلى عاهل البيت الأموي؟
قد يُقال.. لقد بالغت يا أخَ العرب، فالرشوة تُدفع لإبطال حق أو تمكين من باطل، والمسألة هنا لا تنطبق، بل على العكس، الراهب المسكين دفع مدخراته بأكملها — عشرة آلاف درهم، أي ما يعادل بلغة هذه الأيام نحو ثلاثين كيلوغرامًا من الفضة، ما يقارب 165,000 ريال سعودي — لا ليُفسد، بل ليحظى بخلوة مقدسة مع تلك العهدة،
وكأنّه اشترى لحظة نور وسط ظلام التاريخ.
ثم أعود فأقول.. المسألة لا تُقاس بالعاطفة، بل بالالتزام بالأمانة، ودوننا ما يُروى عن الإمام السجاد «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمدًا بالحق نبيًا، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب
ائتمنني على السيف الذي قتله به، لأديته إليه» [3] .
فالمسألة مسألة أمانة، أولًا وأخيرًا.
ومن هنا أخلص إلى نتيجة نهائية، أن فصل التفاعل العاطفي عن التقييم العقلائي، لا سيما في الحكم على بعض القضايا التاريخية أو المسائل ذات البُعد المصلحي الذاتي، بالغ الصعوبة، لا يتجاوزه إلا من مُخض صدق النية وتوفيق الطاعة.
ولعل أمير المؤمنين قد وصف هذه الحالة بدقة حين قال «وكم من عقلٍ أسيرٍ تحت هوى أمير» [4] أي أن يكون العقل خادمًا لا سيدًا، يُبرّر ما يُمليه عليه الهوى، لا ما يُقرّه المنطق.
وفي هذا السياق، تحضرني قصة تُروى في بعض المجالس العلمية عن العلامة الحلي [5] ، حيث كان بصدد مناقشة مسألة الوضوء من ماء بئر سقطت فيه نجاسة.
ولما كانت المسألة حساسة، وكان يخشى أن يحشد الأدلة في جواز الوضوء بدافع الحاجة للبئر، لأن الاستغناء عن بئر في المنزل في تلك الأيام يعني خسارة مورد ثمين، قام رضوان الله عليه بطمّ البئر، لكي يناقش المسألة بتقييم عقلائي بارد، خالٍ من أي تفاعل عاطفي يمسّ حاجة ذاتية.
وقد كان ذلك منه أقصى درجات الأمانة العلمية، فضلًا عن الأمانة المادية الملموسة،
وهو ما ترك في النفوس أثرًا لا يُمحى، وفي القلوب تقديرًا لا يُوصف.