الكلمة التي لا تصل: تأملات في هيرمينوطيقة الغياب
كل نص هو نهرٌ يصب في بحر الوجود، لكن لا نهر يبدأ من لا شيء، بل من ينبوعٍ يتدفق في الأعالي. وقد كان ينبوع هذا النص تغريدةً صافيةً للأستاذ عبدالله المسيان، شقت طريقها في مجرى الروح، حيث كتب ببراعة:
”ليس كل حوار يُفضي إلى فهم، فبعضه مجرد دوران مرهق في فراغٍ لا يسمع ولا يُصغي. تتكسر أصداء الكلمات على صخور صماء، فتتلاشى... كأنما كل محاولة لغرس شتلة الفهم... في بيداء الجدال العقيم، هي رهانٌ خاسرٌ.“
اشتققتُ من كلماته هذه تأملًا عن الكلمة التي لا تصل. لم تبقِ الفكرة حبيسة النظرية، بل تجسدت أمامي مشهدًا حيًا في خضم مفاوضات عملية. هناك، على طاولة الاجتماعات، حيث تتصلب الحركات وتتجمد التعابير، رأيتُ الكلمات وهي تحتضر. أدركتُ حينها أن ”هيرمينوطيقة الغياب“ ليست مجرد مفهوم فلسفي، بل واقعٌ معاش يصطدم به كل من يسعى للتواصل الحقيقي.
في عالم الأعمال، الذي يُفترض أنه ميدان المنطق والأهداف، تتكرر مأساة الكلمات التي لا تصل:
• الاجتماعات العقيمة:
كم من اجتماعٍ تحوّل إلى ما يسميه الفيلسوف يورغن هابرماس في كتابه «نظرية الفعل التواصلي»: فعل استراتيجي يهدف إلى فرض المواقف، لا إلى التواصل الحقيقي. حيث لا يكون الهدف الوصول إلى فهم مشترك، بل ينحصر في إثبات وجهة نظر من منطلق انغلاق وعدم تقبل للآخر. هذا بالضبط ما يشير إليه خبير الإدارة باتريك لينسيوني في كتابه «الاختلالات الخمسة للفريق»، حيث يؤدي ”الخوف من الصراع“ إلى ”وئام مصطنع“ تموت فيه الأفكار الحقيقية قبل أن تولد. هنا، تتحول القاعة إلى مسرح لفيلم صامت، تتصلب فيه العقول في قواقعها، معلنةً رفضها التام للانفتاح.
• فن الإقناع المفقود:
منذ أرسطو في كتابه «الخطابة»، ونحن نعلم أن الإقناع يرتكز على ثلاثة أعمدة: المنطق - اللوغوس، والعاطفة - الباثوس، والمصداقية - الإيثوس. لكن هذا التوازن ينهار حين تتحول العلاقة إلى ”أنا وهو“ كما يصفها الفيلسوف مارتن بوبر في كتابه «أنا وأنت»، حيث يُعامل الآخر ك ”شيء“ لا ك ”أنت“. وهنا يفشل الإقناع، لأننا ننسى المبدأ الذهبي الذي لخصه خبير الإدارة ستيفن كوفي في كتابه «العادات السبع للناس الأكثر فعالية»: ”اسعَ أولاً أن تفهم، ثم أن تُفهم.“
• رقصة الموت في المفاوضات:
عندما تتحول المفاوضات إلى ساحة جدال، فإنها تجسد مشهد ”رقصة الموت البطيئة“ التي تقيمها الذات مع مرآتها. تتوه النظرات في الفراغ، والأيدي التي قد تمتد للمصافحة، ترتجف ثم تتراجع. النهاية هنا محددة سلفًا: مزيد من التباعد، لأن الهدف لم يعد بناء جسر، بل إثبات صحة موقف، في تجاهل تام لحكمة بيتر دراكر، أب الإدارة الحديثة، الذي نبهنا في كتابه «مهام ومسؤوليات وممارسات الإدارة» أن: ”أهم شيء في التواصل هو سماع ما لا يُقال.“
وهنا اكتملت الدائرة، حيث قادتني التأملات في عالم البزنس إلى المساحة الأكثر قدسيةً وحساسية: حياتنا الشخصية. فالتغريدة التي أضاءت هذا الطريق لم تكن مجرد تحليل للحوارات الفكرية أو المفاوضات التجارية، بل كانت كشفًا عن حقيقة إنسانية كبرى وأهمية التواصل والنقاش في كل جوانب الحياة. لقد أدركت أن آليات موت الكلمات التي نراها في قاعة الاجتماعات هي ذاتها التي تتسلل إلى بيوتنا لتخنق الحوار بين أقرب الناس. فالحوار الذي يتحول فيه الشريك إلى خصم لا يختلف في جوهره عن المفاوضات التي يتحول فيها الطرف الآخر إلى منافس. في كلتا الحالتين، يتحول التواصل إلى العلاقة الباردة ”أنا وهو“ التي حذر منها بوبر، ويسود منطق إثبات الذات على منطق فهم الآخر الذي نادى به كوفي.
إن هذه المأساة تبلغ ذروتها وتكون أكثر إيلامًا، ليس فقط على طاولة اجتماع، بل على مائدة عشاء في منزل، ويمتد أثرها المدمر إلى ما هو أبعد من أسوار البيوت، ليصيب علاقاتنا الاجتماعية في الصميم. فالفشل في تطبيق عادة ”اسعَ أن تفهم أولاً“ يكون بمثابة بناء جدار صامت، سواء كان بين شريكين، أو صديقين، أو أخوين، وهو جدار تتكسر عليه الكلمات وتتحول إلى ضجيج لا معنى له، حتى يسود الصمت الذي هو أبلغ صور غياب المعنى.
إن المأساة الحقيقية التي نشهدها في كل هذه الدوائر —العملية والأسرية والاجتماعية— هي استحالة تحقيق ما سعى إليه الفيلسوف هانز جورج غادامير في كتابه «الحقيقة والمنهج»، وهو ”اندماج الآفاق“. فالفهم الحقيقي لا يولد إلا حين يلتقي أفقُ عالمك بأفق عالم الآخر. ولكن حين يصر كل طرف على التمترس خلف أفقه الخاص، تنعدم مساحة اللقاء، وتُصبح الكلمات مجرد جثثٍ هامدة تُلقى في الفراغ الفاصل بين عالمين لا يلتقيان.
وهكذا، تكشف لنا مرآة الحوار عن وجه صراعنا الأكبر مع الحياة ذاتها. فعلى مفترق كل لحظة، يقف الجسد في عالم المادة، بينما يشتعل الوجدان كساحة صراعٍ داخلي. بين ضجيج الخارج ونداء الروح العميق، نتخذ قراراتنا ونرسم مساراتنا.
وهنا يبرز سؤال يطرق أبواب الوعي: في معاركنا اليومية، هل نكتفي بأن نكون قطعًا على رقعة شطرنج الحياة، تُسيّرها الظروف؟ أم نرتقي إلى موقع اللاعب، نرى الرقعة من الأعلى، ونختار حركتنا التالية بحكمةٍ تتجاوز مجرد الفوز والخسارة؟
هذه هي هيرمينوطيقة الغياب التي تكشف أن الفهم ليس استقبالًا سلبيًا للكلمات، بل تفاعل عميق مع معناها وسياقها. وحين يغيب هذا التفاعل، سواء في صخب عالمنا العملي أو في سكون علاقاتنا الأقرب، تموت الكلمات وتعلن غياب المعنى، وهو أقسى أنواع الغياب.
لعل السؤال الأبدي الذي يواجهنا، والذي يتردد صداه في كل حوار فاشل ومحاولة تواصل صادقة هو:
في كل لحظة اختلاف، هل نختار أن نبني جسرًا نحو ”الآخر“، أم نكتفي بتشييد تمثالٍ صامت لـ ”الأنا“؟