ظلّك في عيني
الحياة ليست سوى مجموعة من الأرواح التي نلتقيها، قصص تُنسَج بخيوط من الحب والألفة، ومرايا تعكس وجودنا. لكنّ بعض هذه الأرواح تترك بصمة لا تُمحى، وأولها وأعظمها هي الأرواح التي منحتنا الحياة، ألا وهي أرواح والدينا. وجودهم يمثل الأمان والدفء، والجدار الذي نحتمي خلفه من قسوة الأيام. لكن، ماذا لو هوى هذا الجدار؟ ماذا لو غاب الحنان الذي اعتدناه من والد كان أقرب الأقربين؟ تصبح الحياة فراغًا مؤلمًا، ويتحول العالم إلى ساحة واسعة من الوحدة.
العلاقات الإنسانية هي نسيج حياتنا، منها ما هو أساسي كالعائلة ومنها ما هو داعم كالأصدقاء. كل شخص في حياتنا يترك أثرًا، ذكرى أو ابتسامة أو حتى كلمة طيبة. لكن عندما يرحل شخص عزيز، وخاصة الأب، لا يرحل جسده فقط، بل يرحل معه جزءٌ من أرواحنا. يصبح الفقد شعورًا ثقيلًا يثقل الصدور، ويخلق في القلب جرحًا لا يلتئم بسهولة.
هذا الفقد يولد وهمًا مؤلمًا، فنبدأ برؤية الراحل في كل مكان، نسمع صوته في زحمة الحياة، ونلمح طيفه في الوجوه العابرة. ظله يصبح حاضرًا في زوايا الغرفة، في مقعده الفارغ على كنبة المجلس، وفي حديثنا اليومي. إنه ليس مجرد خيال، بل هو تجسيد لشدة الشوق والحنين، فهو ظلٌّ يبقى في أعيننا يلاحقنا ويجعل الحزن أعمق وأقوى.
يصبح ”ظلك في عيني“ هو لغتنا السرية التي نعبر بها عن الوجع، هو عنوان لفيلم مؤلم نعيشه كل يوم، بطله شخص لم يعد موجودًا ولكنه حاضر في كل تفصيلة. إنه دليل على أن الحب أقوى من الفراق، وأن الأثر الذي يتركه الأحباب لا يمكن محوه حتى بعد رحيلهم. هذا الظل هو الذي يذكرنا دائمًا بقيمة ما فقدناه، ويجعلنا ندرك أن وجودهم كان نعمة لا تقدر بثمن.
على الرغم من عمق الوجع، إلا أننا كبشر نملك قوة كامنة تمكننا من تخطي الألم. صحيح أن الفراق الجسدي مؤلم، لكنه لا يعني نهاية العلاقة. إن روح من نحب تبقى معنا، في قيمها التي زرعتها فينا، في مبادئها التي تعلمنا منها، وفي ذكرياتها التي نحملها في قلوبنا.
فلا يجب أن يغدو الفراق نهاية لحياتنا، بل يجب أن يكون نقطة تحول نستمد منها القوة. ظلك في عيني ليس فقط رمزًا للحزن، بل هو أيضًا تذكير دائم بكل ما هو جميل في حياتنا. إنه دعوة لاستعادة القوة والنهوض من جديد، لا لأجل أنفسنا فقط، بل من أجل من نحب الذين رحلوا.
هم موجودون فينا، في كل موقف حكوه لنا، وفي كل ضحكة شاركونا إياها، وفي كل نصيحة قدموها. روحهم تتنقل عبرنا، وتعيش في إنجازاتنا، وتستمر في أجيالنا. إن هذا الوجود الروحي هو الذي يجعلنا نواصل السير، فنحن لسنا وحدنا، بل هم معنا، يراقبوننا من بعيد، وظلّهم في أعيننا هو الحارس الأمين على هذا الوجود الأبدي.
نصحتنا ما أحلى النصح يا أبتي، فأنت مدرسة في النصح لا عجبَ
رحمك ربي رحمة واسعة، تركت مكانة وسمعة يُميت الحاسد غضبَ.