دعني أُخطئ بطريقتي - 2
في المقال السَّابق كتبنا عن أولئك الذينَ لا يلتفتون للنصائح، فيقعون في فخِّ الثِّقة الزَّائدة التي لم تكن في محلِّها، ويكتشفون بعد فوات الأوان أنَّ القرار الذي تمسَّكوا به لم يكن سوى خطوة متعجلة نحو النَّدم؛ لكننا هنا لا نريد أن نحصر الحديث في رفض النَّصيحة فقط؛ بل نتوقف عند نقطة أكثر أهميَّة: كيف تُقدَّم النَّصيحة من الأساس؟
فطريقة تقديمها قد تكون جسرًا يفتح القلب، أو جدارًا يزيد الإصرار على الخطأ.
إنَّ لكلِّ إنسان طبعه الخاص، وما يناسب شخصًا قد لا يناسب آخر؛ فهناك من يقبل النَّصيحة المباشرة، وهناك من ينفر منها إن جاءت في صيغة أمر أو تقريع. لذلك، إذا أردنا أن نصل إلى ”النَّصيحة الحقيقيَّة“، فلا بدَّ أن تُبنى على أُسس صحيحة: ألا وهي صدق النيَّة، واختيار الأسلوب اللطيف، والوقت المناسب؛ إذ الكلمة نفسها قد تكون سبب هداية أو سبب نفور، والفارق ليس في مضمونها؛ وإنَّما في طريقة تقديمها.
الأهم أن يشعر الشَّخص الذي تريد أن تنصحه أنَّ النَّصيحة منبعها الحب والصِّدق، لا الحقد والكراهية. ومن روعة التَّجارب الإنسانيَّة أن نرى من يستمع للنصيحة ويتأنَّى قبل القرار، فينجو من مشكلة كادت أن تبتلعه. مثل صديق كان على وشك الدُّخول في شراكة تجاريَّة خاسرة؛ لكنه استمع إلى نصيحة صادقة فتراجع، ثمَّ عاد بعد مدَّة يشكر من أنقذه من مغامرة محفوفة بالخسائر. أو آخر كان ينوي شراء عقار في منطقة غير مناسبة، لكنه أصغى لكلمة من محب، فوفَّر على نفسه سنوات من المعاناة مع السَّكن والخدمات.
هؤلاء الذين يقبلون النَّصيحة لا يكتفون بالنَّجاة؛ بل يتحولون بدورهم إلى ناصحين للآخرين، ينقلون تجربتهم بلسان الشاكر: ”لقد أنقذني فلان بكلمة في وقتها، واليوم أنصحكم بما نصحني به“. وهنا تتجلَّى القيمة الحقيقيَّة للنصيحة: سلسلة من الخير تنتقل من قلب إلى قلب، ومن تجربة إلى أخرى، لتقي الآخرين من الوقوع في الأخطاء نفسها.
النَّصيحة ليست وصاية، وليست اقتحامًا لحرية الآخرين؛ هي ببساطة مشاركة تجربة، أو إضاءة شمعة في طريق معتم. وما أجمل أن يُقال عن المرء: ”كان سببًا في إنقاذي من قرار خاطئ“؛ فهكذا، نعيد للنصيحة معناها الأصيل: محبَّة صادقة، وخوفًا على من نحب، وحرصًا على أن نتشارك الحياة بأقل الخسائر الممكنة.
ولعلَّ من أصدق الأمثلة التي عايشتها بنفسي، أنني ومن خلال تجارب شخصيَّة، ومن خلال موقعي العملي السَّابق، كثيرًا ما نصحت بعض الأسر التي اندفعت بحماس لبناء منازل تفوق قدراتها المالية. وكانوا على وشك الدُّخول في قروض مرهقة وأقساط طويلة الأمد، لكنهم توقفوا عند النَّصيحة وأعادوا التَّفكير في خيارات أهدأ وأعقل. فاختاروا بناء منازل تناسب دخلهم واستقرارهم، وبعد سنوات من السَّكن اكتشفوا أنَّ قرارهم كان صائبًا؛ فهم يعيشون اليوم براحة وطمأنينة بعيدًا عن هموم البنوك وضغط الدُّيون. ولو لم يستمعوا للنصيحة لكان حالهم أصعب ومعيشتهم أثقل.
وهنا تظهر الحقيقة البسيطة: أنَّ كلمة صادقة قد تغيِّر مصير عائلة كاملة؛ فالنَّصيحة لا تكلِّف مالًا ولا جهدًا، لكنها قد تفتح بابًا للراحة والاستقرار. وما أجمل أن يُذكر الإنسان بخير؛ لأنَّه كان سببًا في سعادة غيره، فقد يكون أثر النَّصيحة أبقى من أي عمل آخر.
وفي النِّهاية، ما أجمل أن نقبل النصيحة بصدق، قبل أن نتعلَّمها بندم.