القاتل الصامت
كثيرون هم المعتقدون أن عدم الانضباط الصحي هو أقرب الأسباب لإتلاف أجسادهم. فيما تجهل نسبة - قد تكون غير قليلة - أن الحزن والقلق هما أسرع الطرق وأكثرها فاعلية لإنهاك أجسادهم والسير بها نحو النهاية. هكذا روي عن أمي العودة رحمها الله قولها: ما يقتل إلا الهم. الجملة، بحسب رأيي، بليغة جدًا. الصحة النفسية هي عادة من الأمور المسكوت عنها أو ربما المهملة. يهتم البعض بالغذاء والرياضة والسلوكيات الصحية، ولكن قلة تدرك أن لحظات الألم النفسي قد تهدم، صحيًا، كل ما بنته تلك السلوكيات المنضبطة. شخصيًا، حينما يفوز الاتحاد يغمرني قدر كبير من السعادة. وإذا تزامن ذلك مع هزيمة منافس تقليدي، يكتمل عقد السعادة. تلك السعادة التي تجعل ساعات العمل مليئة بالإنتاجية، وتدفع النشاط البدني ليكون في أوجه، وهذا ما يحملني لأكون إنسانًا آخر. وعلى العكس أبدو متيقنا أن مقدارًا مستمرًا من الضغط النفسي هو بمثابة الطريق الأقصر والأسرع لذوبان هذا الجسد، حتى وإن منحه صاحبه الغذاء والسلوك الصحي. إذن يحق لي أن أدعي أن المقهى، والملعب، ومجلس الأصدقاء، قد تعد أحيانا واجبة وجوبا عينيا لإبقاء الجسد والروح قادرين على مواصلة المسير في هذه الحياة كما يجب.
الحديث عن ضغوطات الحياة بصفتها سببًا مهمًا للألم النفسي، حديث يدركه كل أحد. ثمة تساؤل عن تلك الأمور الإرادية التي يبذلها الإنسان ليوقع نفسه في ذلك الضغط، إن من أهمها كما أعتقد سقف الأهداف التي يضعها لنفسه ومنطقيتها. يرد البعض على هذا المعنى بقول المتنبي: وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً… تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ. ولكن هناك فرق بين الطموح والعمل لتحقيق الآمال، وبين النظر إلى ما لدى غيره ممن يفوقونه باعتباره معيارًا، بحيث يجد في المنزل أو السيارة أو المنصب أو المال الذي لديهم، ولا يملكه، سببًا في حسرته الدائمة. أن تعمل لتصل فهذا عين الصواب، أما أن تجلد نفسك بصفتها دون الآخرين، فهذا تعذيب مرير للذات. اعمل، واجتهد، وثابر، ولكن النتيجة قد لا تكون كما تتمنى. حينها تيقن أن واجبك في الحياة قد قمت به، أما النتيجة، فحينما لا تأتي، فقد يكون السبب ظروفًا خارجة عن إرادتك. فلا تعاقب نفسك بالحزن، ولا تجرح قلبك بمخالب الألم.
أشار معهد الصحة العقلية الوطني في الولايات المتحدة إلى إصابة 19.1% من البالغين باضطرابات القلق خلال عام واحد. بينما يصل إجمالي من يعاني منها في حياته إلى 31.1%. يؤثر ذلك بوضوح على صحة الإنسان ونمط حياته، إذ تؤدي اضطرابات القلق إلى تعطيلها بشكل ملحوظ؛ حيث يعاني حوالي 22.8% من المصابين من تأثيرات شديدة، و 33.7% من تأثيرات متوسطة على عملهم أو دراستهم أو علاقاتهم. وهذا يؤكد بدقة ما روي عن أمي العودة في حديثها عن القلق. وإلى أن يتمكن الإنسان من إدراك أن النظر إلى الأعلى كمعيار، واتهام الذات الدائم بالفشل في الوصول إلى الآمال، من أهم أسباب الحزن والقلق، سيبقى الإنسان من حيث لا يشعر يسير بنفسه إلى المرض، رغم ذهابه المستمر لصالات الرياضة ومحافظته الدائمة على أكل الفواكه والخضار واللحوم البيضاء.