نُخطئ، ثم نُبرّر… فمتى نعترف؟
في لحظةٍ فاصلة من التاريخ، صدر أمر إلهيّ إلى إبليس بالسجود لآدم، فرفض. لم يكن رفضه نابعًا من جهل أو غفلة، بل من منطق داخلي: ”أنا خيرٌ منه، خلقتني من نار وخلقته من طين“. لم يُنكر الأمر، بل اعترض على حكمته. وهكذا تحوّل العقل من أداة للفهم إلى وسيلة للتبرير، ومن وسيلة للطاعة إلى منصة للاعتراض.
منذ تلك اللحظة، استقرّ في النفس البشرية ميلٌ خفي لتغليف التمرّد بالأسباب، والعصيان بالمبررات. ومن يومها، لم تعد المعصية تُقال باسمها، بل صارت ملفوفة بحجج تُقنع العقل، وتُسكّن الضمير.
في حياتنا اليومية، نُخطئ كثيرًا، وهذا طبيعي، لكن اللافت أننا لا نتعامل مع الخطأ كلحظة مراجعة، بل نجتهد في اختراع الأعذار له. يتأخر أحدهم عن الصلاة فيُقنع نفسه أن يومه مزدحم. تُقصّر إحداهن في الحجاب فتقول إن الإيمان ما في القلب. يَسكت أحدهم عن منكر أو يُجامله، ويبرّر سكوته بأنه ”يحافظ على العلاقات“. وكلما تراكمت هذه الأعذار، كلما ازداد صوت التبرير… وقلّ صوت الحقيقة.
الملائكة حين أمرهم الله بالسجود، لم يُناقشوا، رغم أنهم مخلوقات واعية. سلّموا لأنهم يدركون أن أوامر الله لا تُقاس بمعايير المخلوق. أما إبليس، فقد قاس، واعترض، وبرّر… فسقط. وآدم - - أخطأ، لكنه لم يُكابر، بل بادر بالاعتراف: ”ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين“.
إبليس برّر… فطُرد.
وآدم اعترف… فاجتباه الله.
وهنا تتجلّى الرسالة:
الذنب لا يُسقط الإنسان… ولكن المكابرة تفعل.
في مجتمع اليوم، التبرير أصبح عادة جماعية. نسمع من يقول: ”الزمن تغيّر“، ”الواقع لا يرحم“، ”الدين أوسع من المظاهر“. ونرى في بيئة رقمية مشبعة بالرأي والانطباع، كيف تتحوّل الغيبة إلى ”نقد بناء“، والتجريح إلى ”صراحة“، ورفض الالتزام إلى ”حرية شخصية“. ومع كثرة التكرار، يُصبح الخطأ مألوفًا، وتغيب الحدود بين الرأي والمخالفة.
حتى في العلاقات القريبة، كالتي تجمع بين الإخوة، بات الاعتذار أمرًا نادرًا. يُؤذي أحدهم الآخر، ثم يصمت ويُراهن على مرور الوقت بدل الاعتراف بالخطأ. يُكابر بدل أن يقول: ”أخطأت“، وكأن الكلمة ستُسقط هيبته. ومع مرور الأيام، يذبل الودّ، وتتراكم الجفوة، لا لأن الخلاف كان كبيرًا، بل لأن الاعتراف تأخّر، أو لم يأتِ أبدًا. فكم من علاقات انكسرت، لا بسبب خطأ، بل بسبب غياب الشجاعة للاعتذار!
التبرير لا يُسكت الضمير دفعة واحدة، بل يُدرّبه على الصمت. ومع كل مرة نلتمس فيها لأنفسنا عذرًا وهميًا، نفقد شيئًا من الخجل، ومن رقّة القلب، ومن وضوح البوصلة. التبرير يُريح مؤقتًا، لكنه يُبعد عن الحق، ويُغلق باب الإصلاح. ومع الوقت، يُصبح التبرير منطقًا، والمنطق قناعة، والقناعة جدارًا يمنعنا من الرجوع.
إننا لا نُحاسب لأننا نُخطئ، ف ”كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوّابون“، كما قال نبيّنا محمد ﷺ، أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
لكننا نُختبر في لحظة ما بعد الخطأ:
هل نكابر؟ أم نُسلّم؟
هل نبرّر؟ أم نعترف؟
الاعتراف ليس ضعفًا، بل شجاعة. أن تُسمي الخطأ باسمه، أن تقول ”أنا المقصّر“، أن تُعيد ترتيب ذاتك بلا حاجة لتلميع الصورة أمام الناس أو أمام نفسك.
وفي زمن تعقّدت فيه المفاهيم، ربما تكون أبسط خطوة نحو النور، أن نتوقّف عن تبرير ما نعلم في قرارة أنفسنا أنه خطأ. وأن نمتلك الجرأة للعودة، قبل أن يُصبح الطريق مزدحمًا بالأعذار… وخاليًا من الحقيقة.
نُخطئ، ثم نُبرّر…
لكن متى نعترف حقًّا؟ ومتى نقول بصدق: ”أنا المخطئ… فاغفر لي“؟