يا حسين… ها قد جئتك ماشيًا على دمعي
كنت أستمع لتلك الأبيات الحسينية، التي مزجت بين المعنى والدمعة، بين العهد والرجاء:
”إذا شئت النجاة فزر حسينًا…“
وكنت أقول في نفسي:
سيدي، واللهِ إنّي أريد النجاة… وسبيلها أن أزورك، وأبكيك، وأسير إليك، وأُذيب قلبي في حبّك.
- - -
دخلتُ في نهر العشق الأربعيني، وأنا أردد: ”أزورك والزيارة واجبة، لو بالعمر مرّة…“
وكانت تلك اللحظة، حين بُشّرنا أنا وأمي وأبي بالسفر، بزيارة الأربعين…
قال أبي بابتسامةٍ لم أرَ مثلها من قبل:
- تمّت إجراءات السفر، وسننطلق بعد شهادة الإمام الحسن .
نظرتُ في عينيه…
كانت تغرورق بالدموع، وكأنّ قلبه سبق قدميه إلى كربلاء، وأمّي، ما إن سمعت حتى شهقت بالبكاء:
”السلام عليك يا أبا عبدالله…“
- - -
في المطار، كانت كلّ الأمور تسير بسلاسة، كأنّ يدًا خفية تذلل الصعاب،
فقلت:
- ها هو الحسين، يستقبلنا قبل أن نصل.
وحين ركبنا الطائرة، طارت أرواحنا قبل أقدامنا، حلّقنا فوق الغيم، لكن أرواحنا كانت تمشي على تراب طريق المشاية، تُردد: ”لبّيك يا حسين…“
- - -
وصلنا النجف، زرنا أمير المؤمنين ، ثم اتجهنا بالحافلة إلى كربلاء. في الطريق، كنت أنظر من النافذة، فرأيت بحرًا بشريًا يتحرك كالموج نحو كربلاء… أمهات، أطفال، شباب، شيوخ، مشاية من كل فج، كلهم سائرون… وفي أعينهم دمعة، وعلى شفاههم صلوات.
وفجأة…
توقفت الحافلة،
قال قائد الرحلة:
انزلوا… من هنا تبدأ المسيرة إلى الحسين.
نزلنا، وسجدتُ، وقبّلت الأرض، وهمست:
”ما أطيب ريحك يا كربلاء… ما أطهر ثراك يا حسين.“
- - -
بدأنا المسير…
الرايات ترفرف، الأصوات الحسينية تمزق السكون، الأطفال على جانبي الطريق ينادون:
”هلا بيهم زوّار الحسين، تفضلوا شاي أبو علي…“
وكانت أمي تُقبّل رؤوسهم، وأبي يشرب الشاي ويقول:
”بارك الله بكم، أنتم خدّام الحسين.“
- - -
مررنا برجل طاعن في السن، يحمل صينية عليها خبز،
يقول:
”تفضلوا… خبز الحسين.“
توقفت…
دموعي سبقتني، أردت تقبيل يده، لكنّه سحبها، وبكى وهو يقول:
”الأجر هناك… عند الحسين…“
- - -
ثم علت الأصوات:
”أمامكم قبة أبا الفضل العباس!“
رفعتُ رأسي…
دموعي حجبت الرؤية…
ثم لمحتها… القبة التي طالما رأيتها في الصور،
لكن الآن…
رأيتها وهي تحضن قلوب الملايين.
الزحام شديد، والأصوات تمزج الرثاء بالصلاة:
”يا حسين… يا عباس…“
”لبّيك يا حسين…“
ثم…
صرخ أحدهم:
”أمامكم قبة الحسين… قبة أبي الأحرار…“
توقف قلبي…
نظرتُ…
رأيتها…
نورٌ يخترق السماء…
قبة ليست من طين… بل من حنين، من دموع، من عشق.
صرخت دون أن أستطيع النطق:
يا حسين… يا حسين…
- - -
احتضنتُ أمي، احتضنتُ أبي، وبكينا…
سجدتُ… وقبّلت الأرض، ورفعت رأسي…
كأنّي أسمع صوت زين العابدين يقول:
”هاهنا والله قُتل رجالنا، وذُبحت أطفالنا، وسُبيت نساؤنا…“
ثم…
سمعت صوت زينب :
”يا نازلين بكربلا هل عندكم… خبر بقتلانا وما أعلامها“
- -
رفعت رأسي…
فإذا بي أراه…
قاسم… يقف بين الجموع.
قال لي بصوتٍ شفاف:
- أهلاً بك… هذه كربلاء.
أنت في ضيافة سيد الشهداء.
لم أتمالك نفسي…
صرختُ:
يا حسين…
وبكيت كما لم أبكِ من قبل.
فهذه الأرض ليست كأي أرض،
وهذا اللقاء… ليس كأي لقاء.
ها قد وصلت…
وبدأت الرحلة من جديد،
رحلة اسمها: الحسين…