آخر تحديث: 16 / 8 / 2025م - 4:05 م

وراء ظهري

حكيمة آل نصيف

ورد عن أمير المؤمنين : «من لم يتغافل ولا يغض عن كثير من الأمور تنغصت عيشته» [غرر الحكم: 4663].

السمات الشخصية للناس ليست كلها واحدة، بل لكل فرد شخصية تميزه عن غيره، والصفات الأخلاقية تنبع من البيئة التي يعيشها الإنسان، فقد نتعرض لكثير من المواقف التي تؤذينا، ولكن لو وقفنا على كل موقف وكل حدث وحاولنا الرد عليه بالمثل، لأصبنا بالاعتلال الروحي والأخلاقي. ولكن الأسمى من ذلك هو التغافل والتجاهل في المواقف التي تستدعي ذلك، فليس كل موقف يستحق الاهتمام به والوقوف مليًّا عليه. والإنسان الذي يمتلك هذه الصفة شخص وقور، لديه ملكة يفتقدها الكثير، وهي الحلم والتريث في إصدار الأحكام ويمتلك حس التسامح. وهذا بخلاف الشخص الذي يفتقد عنصر التغافل والتجاوز والعفو عن بعض الهفوات، حيث يعيش حالة من الصراع ليس فقط مع الناس، وإنما مع ذاته، فدائمًا يعاني من قلق وتوتر ويفتقد حسن الانضباط والسيطرة على نفسه، فنراه بسبب التدقيق في المواقف وتصرفات الآخرين تسيطر عليه العصبية والتصادم، مما يؤثر نفسيًا وصحيًا واجتماعيًا على ذاته شيئًا فشيئًا، ويكون هو السبب في ابتعاد الآخرين عنه وابتعاده وانعزاله بنفسه.

أما من يتغافل فيعيش حالة من السلام والأمن النفسي، ولديه قدرة على التريث والصبر، ويستطيع التمييز بين كل موقف وآخر، وما هو الاستحقاق المناسب من الرد عليه أو تركه وغض الطرف عنه.

نحن بطبيعتنا يوميًا نصادف الكثير الكثير من الشخصيات، وكل شخصية بها ما يزينها أو يعيبها، فالإنسان لا يعيش منفردًا، بل لديه احتكاكات ببني جنسه في مجالات الحياة المختلفة. ولنفهم جيدًا حقيقة التغافل الفعال، وهو البعد عن المهاترات في الأمور التي لا تستحق.

نحيا مع تنوير فكري وسلوكي يفتح لنا معرفة بمفاتيح الحياة السعيدة والناجحة بعيدًا عن المنغصات وبؤر التوتر والاضطراب. ومفهوم التغافل وغض النظر عن الهفوات والأخطاء غير المقصودة، وتجاوز أي خلاف بعد إيجاد حلول ممكنة له دون وجود تأثير وجداني سلبي، ليس مجرد مفهوم مثالي وحياة في المدينة الفاضلة كما يقال، ولا يصدر من ضعف وقلة حيلة وسذاجة في التعامل مع الآخرين كما يحاول البعض تصويره بصورة مخالفة عن الحقيقة، بل هو قيمة أخلاقية تعبّر عن المحتوى التربوي والبيئة التي تلقَّى فيها الفرد تعليمه وتوجيهه، فيحافظ - بشكل عملي - على تلك التربية المباينة لما يتعامل به البعض من ردات فعل عنيفة وتهوّر أمام أي إساءة أو حوار ساخن يشارك فيه، إذ يعبّر البعض خطأ عن اعتزازه بنفسه والحفاظ على كرامته كما يزعم بالانتصاره لنفسه بالرد العنيف، والحقيقة أن هذا الأسلوب يتبين مدى خطورته على الفرد وعلاقاته المجتمعية من خلال الدخول في دهاليز المشاحنات والخلافات والصراعات التي تحوّل حياته إلى جحيم وتسلبه الراحة والهدوء النفسي، وتقوده إلى مواجهات لا تنتهي، وبالتأكيد أنها تستنزف وقته وجهده وطاقته النفسية.

العقل الواعي والعارف بنتائج وعواقب الأمور والخطوات والقرارات المتخذة، يرتقي بأسلوب تعامله إلى مبدأ احترام النفس قبل احترام الآخرين، وأي أسلوب لاستفزازه لا يمكنه أن يتفاعل معه بما يخرجه عن أطره التربوية، بل الطريقة المتاحة والصحيحة التي تقيه من المشاعر السلبية هي تجاهل تلك الإساءة وتجاوزها وكأنها غير موجودة، والمضي بقوة في الطريق الذي يرسمه لنفسه من آمال وأهداف تستحق العناء والتعب من أجل تحقيقها. وهذا ما نسمّيه بفن التعامل الراقي والواعي مع بؤر التوتر والخلاف، وطريقة معالجتها بهدوء بعيدًا عن التشنّجات، فمن غير المعقول أن نعطي تلك الهفوات مساحة كبيرة من أوقاتنا الثمينة، مع ما تجرّه علينا من خسائر فادحة على جميع المستويات النفسية والاجتماعية.