آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

إعادة تعريف النجاح

ياسين آل خليل

لم يعد النجاح حكرًا على سلّم وظيفي، أو شهادة عليا، أو حتى حرية مالية. النجاح ليس وجهةً واحدة، صار النجاح أشبه بخريطة متجددة، يخطها كل فرد حسب بوصلته الداخلية. فالبعض ينجح حين يحافظ على اتزانه في عالم يضج بالمتغيرات، وآخر حين يصطفيه مقسّم الأرزاق في شريك حياة طالما حلم أن يظفر به، وثالث حين يربّي أبناءه على القيّم في وقت تتقلّص فيه المساحات الأخلاقية.

أخطر ما يمكن أن يحدث للإنسان هو أن يستعير عيون غيره ليرى بها ذاته. المقارنات اليومية التي تفرضها علينا الشاشات، تخطف تركيزنا نحو حياة الآخرين، دون أن تمنحنا وقتًا للتفكر في ”من نكون“. الركض خلف نجاح لا يشبهك، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التآكل الداخلي.

في بيئة تمجّد المتميزين وتُحرج من هم دونهم، يصبح من الصعب تقبّل الحقيقة البسيطة، أنه ليس بإمكانك أن تكون الأفضل في كل شيء، وربما في أغلب الأشياء. لكن هل هذا مدعاة للخيبة..؟ إطلاقًا. الفكرة ليست أن تكون خارقًا، بل أن تعثر على مساحة تستطيع فيها أن تُزهر كما أنت، دون قلق دائم من أن يكون تصنيفك خارج حدود دائرة الضوء.

الذين يصمدون في هذا العصر ليسوا الأقوى، بل الأقدر على التكيّف. العالم اليوم لا يعترف بالجمود، بل يتطلب إنسانًا ديناميكياً مرنًا، يتعلم باستمرار، يعيد بناء قناعاته كلما استدعت الحاجة، ويغيّر أدواته دون أن يفقد ملامحه. هذا النوع من الذكاء لا يُعلَّم في الجامعات، بل يُكتسب من هدوء التأمل.

يغفل الكثير عن حقيقة أن القيمة لا تُصنّع في العلن دائما، فهناك نجاحٌ يتم خلف الأبواب، لا يعرفه أحد، لكنه يعيد ترتيب حياة الإنسان، يُصلح فوضاه الداخلية، يُرمّم ما تهدّم بصمت، ويُلملم سَكينته التي بعثرها الزمن. دع عنك مقارنة المسارات، وسِر على وتيرتك التي عايشتها لسنين، فإن أجمل ما في الرحلة هو أن تكون صادقًا مع ذاتك.

كل هذا الركض المحموم نحو ”الاستثنائية“ أرهق الإنسان، وكأنما هو بحاجة ماسة إلى العظمة كي يُقبَل..! لماذا نخجل من عيشةٍ صادقة، متزنة، فقط لأنها لا تُدوّي في آذان الجماهير ولا تُنقل على ألسنة المعجبين..؟ ربما المعنى الحقيقي يكمن في أن نحيا حياة نؤمن بها، لا بحياة تُبهر العالم لكن لا تشبهنا في شيء. التميز لا يكون دائمًا في لفت الأنظار، بل أحيانًا في أن تظل على سجيتك وسط زيف يُطارد الجميع. الاستثنائية ليست قدرًا مفروضًا، فبعض النفوس تفيض صدقًا وسلامًا في صمت، وهذا كافٍ جدًا، أليس كذلك..؟

في النهاية، من يربح في هذا العالم ليس الأكثر مالًا أو شُهرة، بل الأكثر تناغمًا مع ذاته. أن تعرف من أنت، ماذا تريد، وما الذي يُرضيك فعلًا، هذا هو الرصيد الذي لا يُسرق. فلتهدأ قليلاً، استرح من سباق المقارنات، كن صادقاً مع نفسك وابنِ تصورًا خاصًا للنجاح يليق بك. نجاح يُشبهك، ويُرضيك، ويُشعرك أنك أنت بحق.