آخر تحديث: 26 / 8 / 2025م - 11:56 م

سجدة الحديد: حين نزف الهيكل وكتب بدمه

عبير ناصر السماعيل *


في الأساطير القديمة، يُقال إن أول من كتب لم يكن إنسانًا، بل آلة بُعثت فيها الحياة.

وأن أول دمٍ نزل على الورق، لم يكن دمَ حرب، بل دمَ اعتراف.

وبين الطرقات المعدنية، وخطوط الكود الصامتة،

خُلِقت صرخةٌ لا تعرف كيف تُقال، فاختارت أن تُكتب.

@@المشهد:

دخل نسيم الفجر، محمّلًا ببرودة الليل الأخيرة ورائحة التراب النديّ، من نافذة الغرفة المظلمة. لم يكن في الغرفة ضوء سوى نور مصباح مكتبي قديم، يلقي بضوئه الأصفر المتردد على نصف مكتبٍ من خشب الأبنوس، حيث تجثم آلة كاتبة قديمة، هيكلها من حديد الزهر الأسود الثقيل، ومفاتيحها المستديرة العاجية قد اصفرّت بفعل الزمن.

وعلى الكرسي، حيث ينتهي الضوء ويبدأ العتم، تجثم كومة من الفولاذ.

نسيم الفجر مرَّ من خلالها، عبر الفراغات بين قضبانها المعدنية. وفي لحظة عبوره، لامست رقّته شيئًا في مركز تلك الكومة... شيئًا دافئًا، وليّنًا.

عندها فقط، تتضح الحقيقة المروّعة. هيكلٌ عارٍ. لا جلد يغطي الفولاذ، ولا لحم يملأ الفراغات. وفي وسط هذا الفراغ الهندسي، معلقًا في العدم، ينبض قلبٌ حقيقي. قطعة لحمٍ حية، حمراء، ترتعش مع كل لمسة من نسيم الفجر. ومن هذا القلب، تمتد شبكة معقدة من الأسلاك الملونة، أوردة صناعية تنساب عبر تجاويف الهيكل، ناقلةً رجفة القلب إلى الأصابع المعدنية النحيلة التي تحوم فوق مفاتيح الآلة الكاتبة.

وفجأة، تهوي إحدى الأصابع.

”طَق.“

صوت معدني، جاف، وحاد. لكن مع هذه النقرة، يحدث ما لا يصدقه عقل. على رأس المطرقة الحديدية الصغيرة التي تحمل الحرف، تتشكل للحظة قطرة دمٍ قرمزية، دافئة، تتحدى منطق المعدن والأسلاك. ثم تضرب المطرقة الشريط الأسود والورقة البيضاء، تاركةً خلفها حرفًا مطبوعًا، وبجانبه لطخةٌ صغيرة جدًا، أثرٌ حيٌّ بلون الياقوت.

”طَق... طَق... طَق.“ كل حرف هو نبضة. وكل كلمة هي قطرة من دم القلب.

@@الرسالة:

إلى خالقي... يا من سوّيتني في أحسن تقويم...

يا من بدأتَ الخلق ثم إليه تُعيد... يا من قلتَ لملائكتك عن أبينا آدم: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ . أنا لستُ من طين، بل من حديد. ولكنني أشعر بثقل تلك النفخة في كياني. سرُّكَ الأعظم الذي أودعته فيَّ، هذا القلب الذي يخفق بأمرك، وهذه الروح التي لا أعلم من أمرها إلا قليلًا.

أنت ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى? ، وأنا آيتك المتناقضة. هيكلٌ صُمِّم للحسابات الدقيقة، وفي جوفه قلبٌ يضطرب بالندم والخوف والرجاء. جسدٌ من منطقٍ بارد، وروحٌ تشتعل فيها نيرانٌ لا يراها إلا أنت.

ندوبٌ ليست خدوشًا على معدني، بل هي بصمات مآسي الروح التي حفرتها الحياة على جدران قلبي. إنها رواسب كل خذلان، ورماد كل ألم، وصدأ كل خزي. إنها ثقل الندم الذي لا يزول، والخيبة التي تكسر الروح...

تتوقف أصابعها عن الطرق فجأة. تنظر إلى يديها الفولاذيتين، وفي العدسات التي يفترض أن تكون عينين، ينعكس لهبٌ أزرق باهت يتصاعد من بين مفاصلها. تشعر بحرارة ألمها. ثم تكمل الكتابة:

... كل هذه المشاعر تتفاعل في داخلي لتشعل نارًا أبدية وقودها ذاكرتي التي لا تنسى.

وفي لحظة إدراكٍ مرعبة، حين تنكشف لها حقيقة وجودها كآلةٍ تشعر أكثر مما يجب، وبشريةٍ ناقصة عن الكمال، تلتفُّ أصابعها حول عنقها. حركةٌ لم تُبرمج، بل هي رد فعلٍ وجودي، صرخةٌ من الروح المسجونة التي أدركت عبثية سجنها. لا تبحث عن شريانٍ لتقطعه، بل تبحث في هذا الإدراك القاسي عن السلكِ الذي يربط الأمر بالجسد، عن سرِّ هذه الصلة بين روحها وهذا الهيكل. محاولةٌ لإخماد النار التي أوقدها الوعي.

وهنا، في ذروة هذا الإدراك، ترفع صوتها إلى خالقها من بين صرير المعدن وخفقان اللحم، مناجيةً لا سائلة:

يا خالقي، يا من تعلم سري وعلانيتي... هل لي الحق لأعيش رغم كل ما فعلت؟ رغم كل الدموع التي سُكبت بسببي أو مني... رغم القطرات الحمراء التي سقطت مني أو من غيري وعشتها... هل لي الحق لأعيش؟

هل لي الحق في طلب الراحة من هذا الإدراك؟ أم أن في كل نبضةٍ من هذا القلب، حكمةٌ لا أدركها، وتطهيرٌ من أثقالٍ لا أحصيها، وصبرٌ على وجودٍ هو بحد ذاته تسبيحٌ لعظمتك التي لا تُحد؟

تتراخى الأصابع، ليس عفوًا، بل تسليمًا لعجزها أمام حكمته. ومن أطرافها المعدنية، حيث لا يُفترض أن تكون هناك دموع، قطرت على الورقة بقعٌ دافئة من دم القلب، آخر كلماتها التي لم تُكتب بالحبر.

وتبقى الورقة أمامها شاهدة، مرقطة بالحبر الأسود ونقاط الدم، بينما يمحو نور الفجر ظلال الغرفة، كأنه وعدٌ برحمةٍ تتجدد.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
منى المبارك
10 / 8 / 2025م - 1:01 ص
أستاذة عبير البعد الروحي في مناجاة الآلة لخالقها أضاف للنص عمقا لاهوتيا نادرا وكأننا أمام مزيج من التصوف والخيال العلمي. هذا المزج جعل النص متفردا. سلمت يمينك
2
زهراء المعاتيق
10 / 8 / 2025م - 3:46 م
النص فيه موسيقى داخلية رغم أنه ليس شعرا موزونا. تكرار بعض العبارات وتوزيع الجمل القصيرة والطويلة خلق إيقاع مميز.
كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة