الرادع: التربية... الدين... أم القانون
قبل عدة سنوات، كنت في زيارة لإحدى الدول الخليجية، فلفت انتباهي كثرة عدد اللوحات الإعلانية لمحامين في شتى شؤون الحياة: محامي نقضٍ، محامي قضايا أسرةٍ، محامي قضايا تجاريةٍ، محامي قضايا جنائيةٍ، محامي خلعٍ وطلاقٍ، محامي توثيقٍ تجاريٍّ، محامي قضايا مروريةٍ... إلخ. تركت تلك اليافطات الإعلانية انطباعًا غير محمودٍ في نفسي عن ذلك المجتمع، ومدى تجانسه وحسن تعايشه والتعامل فيما بين أفراده. وأحسست بأن انتشار النزاعات القضائية وصل ذروته، الأمر الذي يجعل هذا الكم الكبير من المحامين لافتًا. وبالفعل، أخذت أقرأ أكثر عن قضايا ذلك المجتمع القانونية، وتأكد لي أن إحساسي صحيح.
في المنطقة التي ترعرعتُ بها، كانت قضايا نزاعاتٍ مختلفةٍ تُحل بشكل سلس، بعد اجتماع الخصوم في مجلس أحد الوجهاء أو الشيوخ من رجال الدين، والبدء بعقد الجلسة بالصلاة على النبي محمد ﷺ، ثم التدارس، وحلحلة الأزمة، وتعاون الأطراف عبر التنازلات المتبادلة بينهم. لاحقًا، وبعد الرخاء المالي في حواضرنا، بانت أمور جديدة، وتزايدت مساحة تضارب المصالح بين أطرافٍ عدةٍ، وتراخت مجاميعُ الأسر في تربية أبنائها، وتمرد عددٌ غير قليل من الناس على قيود الدين نتيجة الشهوات والانفلات، وانتشر الطمع واللهث خلف تحصيل المال. فضاقت مساحة التفاهمات داخل المجتمع، ولاحظت أن الكثير أُجبر على اللجوء للقضاء والقانون نتيجة لتلاشي ثقافة التفاهم المباشر.
ومن أمثلة تلك القضايا المتعددة: قضايا الصراع على الميراث، أو الخلاف في الشراكة، أو مماطلة المستأجر، أو مطالبة بعض النساء بالخلع من أزواجهن، أو امتناع بعض الرجال عن بذل النفقة، أو تورط البعض في أعمال نصبٍ، واحتيالٍ، وتزويرٍ... إلخ.
في عصرنا الحالي ومجتمعاتنا، أصبح القانون هو الأقوى نفوذًا؛ لانتشار ظاهرة تدني الوازع الديني عند البعض، واضمحلال التربية القويمة عند البعض الآخر؛ فضلًا عن ظاهرة التنافر والغرور والتكبر والعناد المسيطرة على أنفس البعض. والواقع أن تقويم السلوك البشري في كل فترة يحتاج لكل تلك العناصر «الدين، التربية، القانون»، ولكن بنسب مختلفة، مع أنفس مختلفة.
القانون البشري، بالمجمل، هو جملة تشريعات تعالج أمورًا حادثة بعد حدوثها. ولذا، نجد أن القانون عمل شبه بيروقراطي، وقد يأخذ مددًا زمنية طويلة لمعالجة حوادث مستجدة أو مكررة؛ وقد يفشل قانون ما في بعض جوانبه، لوجود ثغرات فيه، ويتم استغلالها من أصحاب النوايا السوداء. وقوة القانون تكون معتدًّا بها مع وجود سلطة تنفيذية قوية تسندها وتفرضها بالواقع، وإلا سيكون الأمر مجرد ”طق حنك“ وحبر على ورق، كما هو الحال في بعض دول الواق واق ودول الموز.
البيت... البيت هو منبع صناعة الإنسان السوي والمحترم والمنضبط. وجود بيوت هادئة ومتجانسة ومتحابة في بيئة اجتماعية طيبة، يجعل أعضاء ذلك المجتمع أكثر انضباطًا وتكاتفًا وتفاهمًا وتجانسًا وإنتاجًا واستقرارًا ونموًا، والعكس صحيح. فأحسن اختيار زوجتك وأنسابك وأصدقائك ومهنتك ومكان عملك وتسوقك ومكان سياحتك وبنكك وتجارتك وصندوق استثمارك وشركائك وخطوط الطيران التي تسافر معها ومجالسك ومسجدك وزملاءك الافتراضيين، وتفاعلاتك مع الآخرين، لتنعم بحياة بعيدة عن القيل والقال، وهرج الفجار، واقتناص أهل الاستغلال.
في بعض الدول الصناعية التي أقمتُ بها، أكد لي بعض سكانها على أهمية معرفتك بمحامٍ قوي ومحاسبٍ ذكيٍّ «اطلع على مقال سابق لنفس الكاتب: ثقافة قانونية... محامٍ ومحاسب ومكتب عقاري»، لكي تُحسن إدارة معيشتك في تلك المجتمعات. وأعتقد أن هذه التوصية آخذة في التمدد لتصل إلى مياهنا الدافئة «الخليج». لم نعد نعيش في المدينة الفاضلة Utopia, فالبشر خليط أهواء ومصالح ورغبات وشهوات، وعلى الإنسان أن يزيد مساحة احتكاكه بالصالحين لتطيب حياته، والاحتراز من المنحرفين والنصابين والمدلسين، لكيلا يفسدوا عليه حياته.
ملاحظة: عندما تتقدم برفع قضية لأي محكمة في أي دولة، وترى أن جدول تاريخ انعقاد جلسة القضاء أتاك بزمنٍ بعيدٍ من وقت تقديم طلبك، فاعلم أن هناك طابورًا طويلًا من القضايا على مكاتب القضاة. وأعان الله رجال القضاء على هكذا أمور، وأعانك الله على استرداد حقك من مغتصب حق، أو مستأجر مماطل، أو خبيث متلكئ، أو كذابٍ أشرٍ مماطل... إلخ.