التجديد في الخطاب الديني
الكتابُ والمفكرون المسلمون والعرب يؤمنون بـ «ضرورة نقد الخطاب الديني» بصورة موضوعية تحافظ على الإطار العام للمجتمع، وتؤهله للعيش على قاعدة التزامه الديني المعاصر.. فلا يكون انخراطه في العصر ابتعادًا عن التزامه الديني، أو العكس بأن يكون التزامه الديني انطواءً عن حركة التقدم والعصر. علينا أن ندرك أهمية الاجتهاد والتجديد الإسلامي المعاصر، وضرورة أن نبقى مسلمين فكرًا ومنهجًا.. فالتجديد لا يعني التهرب من الالتزام بقيم الدين، وإنما طريق نجاة لكي نتمكن من الإجابة على كافة الإشكالات والقضايا المعاصرة التي تعيشها الأمة. إنَّ الأصول والمعارف الدينية منها ما هو ثابت لا يتجدد بذاته، بل ما يمكن تجديده هو طريقة عرضه وتطبيقه في حياتنا المعاصرة. والأفكار والمعارف الدينية لا يمكن أن تتطور، من دون تطور واقع الناس والمجتمع. الخطاب الديني هو مجموعة الأفكار والمفاهيم والممارسات التي يتم تداولها في السياقات الدينية. ويشمل هذا الخطاب النصوص المقدسة، التفسيرات، والممارسات الاجتماعية والعبادية بالدين. السؤال: هل هناك حاجة لإصلاح الخطاب الديني؟ وما هي المواضيع التي تحتاج للإصلاح، والجهات المسؤولة للقيام بذلك؟ هل عموم الناس، أم المؤسسات المتخصصة؟ هذه التساؤلات والإجابة عليها تتطلب جهدًا علميًا ذا طابع مؤسسي أكاديمي متخصص في البحث والدراسة لكافة القضايا والإشكالات التي يتم طرحها بين الفينة والأخرى. وعرض الأمر لأهل الاختصاص من أجل الخروج بدراسات علمية محكّمة ورصينة. والحاجة للإصلاح ضرورة شرعية. فليس الحل من خلال هؤلاء الذين في كل مرحلة من مراحل التاريخ، وخصوصًا أثناء الأزمات أو التحولات الفكرية، يخرجون علينا بأن سبب التخلف والجمود الدين، ويصوّروه كقيد على التقدم، ومعيق للحرية، بل وأحيانًا كأصل لكل الشرور.
لكن هل هذا النقد نابع من فهم عميق لطبيعة الدين؟ أم أنه نتاج صراع مع تجارب بشرية شوهت جوهره، وأسقطت عليه ما ليس فيه؟
الحقيقة أن هذا الاتهام الجاهز يغفل عن أمرٍ جوهري.. الدين في أصله، ليس مؤسسة سياسية أو طبقية، وليس أداة قمع أو احتكار للمعرفة، بل هو خطاب يتجه إلى وعي الإنسان الفرد، يحثّه على التفكير، ويدعوه لتحرير نفسه من عبودية المادة والهوى، ويدفعه إلى تعمير الأرض بالعدل والإحسان. وإذا كانت هناك أنظمة أو جماعات قد اختطفت الدين لتثبيت سلطتها، فهذا لا يعني أن الدين نفسه هو المشكلة، بل المشكلة فيمن احتكروا تفسيره وضيقوا أفقه لخدمة مصالحهم.
في السياق الإسلامي، نجد أن أول آية نزلت هي: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق -1]، وهذا وحده يكفي لنقض تلك المزاعم التي تصف الدين بالعداء للعلم. الإسلام لم يكن يومًا حاجزًا أمام الفكر أو الإبداع، بل كان محركًا للنهضة في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية. وكم من علماء ومفكرون خرجوا من رحم الإيمان، لا من ضده.. ابن الهيثم، وابن سينا، والرازي، وغيرهم، لم يروا في الدين خصمًا، بل دافعًا للبحث والتجريب.
الخلط بين الدين والتديّن المغلوط هو ما يربك الصورة. فحين يفرض الدين كوصاية على العقول، دون مساحة للتأمل والتساؤل، يتحول إلى أداة قمع. ولكن هذا ليس جوهر الدين، بل انحراف عن مقاصده الكبرى. فالدين ليس نظامًا استبداديًا، بل رسالة لتحرير الإنسان من الخوف والجهل والاستغلال، وتحقيق كرامته ووعيه.
نقد الدين باعتباره مصدرًا للتخلف هو تبسيط مخادع. فالتخلف لا ينتج من الإيمان، بل من الجهل، ومن الاستسلام للجمود الفكري، والمجتمعات لا تنهض بمحاربة الدين، بل بتحريره من الاحتكار، وإعادته إلى فضائه النقي.. فضاء الرحمة، والعقل، والحرية.