طبْقَة نعال.. الطائرة التي قصفت قلوبنا قبل رؤوسنا 2/1
ليس بالبعيد تلك الفترة، ففي صالة كل بيت عربي، لم يكن الدفاع الجوي بيد الحكومات، بل في يد أم ترتدي عباءتها، وتتحول في ثوانٍ إلى قائدة سرب ”نعاليّ“ مقاتلة، تضرب بلا إنذار مبكر، وتنفذ غارات تكتيكية خاطفة تُعيد ترتيب الفوضى السلوكية داخل البيت. إنها الطبقة الجوية الأمومية التي لم يُسجّل التاريخ أنها أخطأت إصابة الهدف ولو مرة واحدة.
قبل أن نُغري أنفسنا بمفاهيم الحريات الحديثة، كان في كل بيت ”رادار بشري“ قادر على رصد طنين الكذب، وتحركات الخبث، وتجهيزات المقالب الأخوية. وكانت الأم حين تنفذ بطارية صبرها، تمد يدها بخفة أُسطورية، وتُطلق ”فردة النعال“ كما تطلق الناسا قمراً اصطناعياً… بنية تربوية غاضبة، ومسار دقيق، وسرعة تفوق الصوت.
هذه ليست مبالغة، بل شهادة أجيال كاملة نحتت أخلاقها وسلوكها من ارتدادات النعال الطائرة والتي يتذكرها الكثير منا، والتي كانت تنطلق من الأرض لتسقط على الكتف، أو اليد، أو في بعض الحالات القصوى: الكرامة نفسها!
لست بصدد تجميل العنف، ولا إعادة تدوير الألم ولا التحريض عليه، لكن تعالَ نتأمل: ماذا كان يحدث قبل انطلاق النعلة؟ كانت هناك تحذيرات، ثم إنذارات، ثم ”العد العكسي“، ثم صمت يسبق العاصفة. وبعدها… ززززززززت! انطلقت!
ويا لها من لحظة! ترى الطفل والواحد منا يحاول الركض والاختباء، لكن قوانين نيوتن لا تنطبق على النعال. فكل فردة كانت مزودة بنظام تتبّع نفسي داخلي، يذهب مباشرة إلى نقطة الذنب.
ومن العجيب أن النعال كانت تُستخدم أيضًا كأداة شفاء! فبعد أن تستقر في جسد الضحية، تقوم الأم بنفسها بمسح آثارها، تعانقه، وتطلب منه أن يصبّح عليها بقبلة. هل رأيتم قنبلة عاطفية بهذا التناقض؟! هذا ليس سلاحاً… هذه أمومة عالية الجودة!
الحديث عن طبقة النعال ليس مجرد ضحك على الماضي، بل استدعاء لذاكرة تَشكّلت فيها مبادئ الحياة. كنا نتعلم:
• أن الاحترام ليس خيارًا، بل تلقينٌ مباشر.
• أن ”لا تكذب“ لا تحتاج إلى محاضرة بل إلى نظرة… وربما ”طبقْة“ إن لزم الأمر.
• أن الصمت أحيانًا يكون عقوبة أكثر من العقوبة نفسها.
لقد كانت النعال، يا سادة، منصة تعليمية، وقيمة اجتماعية، ووسيلة بيد الأمهات لصناعة أجيال تعرف أن حدودها تبدأ من حيث تنتهي فردة النعال.
الإجابة قد تصدمكم: نعم… وقد لا تعود.
لقد تراجعت طبقة النعال بسبب قوانين حماية الطفل، ومفاهيم التربية الحديثة، وثقافة الحوار، وكل هذه أشياء نبيلة بلا شك، لكنها أزالت ”الخوف الجميل“ من الأم، ذاك الخوف الذي لا يصنع عُقدًا نفسية، بل يصنع استقامة.
أصبحت ”المخدة“ وسيلة العقاب، وأصبحت الأم تقول: ”أنا زعلانة منك“ بدل أن تقول: ”جيب النعال اللي تحت الطاولة“. والفرق بين العبارتين كالفرق بين طلقة مدفع وقُبلة نحلة.
لكن السؤال الأهم: ما الذي حلّ بنا بعد أن توقفت الطبقة الجوية عن العمل؟
انفلت الزمام، وأصبح بعض الأبناء يرون أن الحديث مع الأم ”جدل“، والرد عليها ”رأي حر“، ومخالفتها ”شخصية مستقلة“. فانهارت بوصلة التربية إلا ما رحم ربي كما دائمًا أقول، وتحوّلت الأم من قائدة عمليات إلى مراقبة لا تملك صلاحية التدخل.
”طبقة نعال“ في المجتمع الأوسع: هل نحن بحاجة إلى نسخة منها؟
نعم… لكن بطبعة عصرية.
نحن بحاجة إلى نسخ معنوية من ”فردة النعال“، لا تؤذي لكنها تهزّ الوعي. قد تكون هذه الفردة اليوم:
• توبيخًا رصينًا.
• حرمانًا من المميزات.
• نظرة من أب أو أم تذيبك خجلًا.
الفكرة ليست في الأداة، بل في الأثر.
نبضة أخيرة: فردة نعل… ولكنها من ذهب
الطائرة التي اخترعتها الأمهات لم تكن طائرة حرب، بل طائرة قيم.
كانت تطير لا لتسقطنا، لكن لترفَعَنا.
وكانت تصيب الهدف، لا لتؤلمه، بل لتُوقظه.
وكانت تعود دائمًا إلى القدم نفسها… تلك التي مشينا خلفها في الأسواق، وفي الشدائد، وفي الحياة.
فيا كل أم أسقطت نعلة في طفولتنا…
نُقبّلها اليوم، لا لنُعيد استخدامها، بل لنُعيد فهمها.