آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

كلام عن الجغرافيا المقدسة

أثير السادة *

وهو يفتش في ذاكرة الزيارة لكربلاء وطقوسها، يقف الباحث باركر سيليبي في دراسته المعنونة ”Husayn’s Dirt: The Beginnings and Development of Shi‘a Ziyara in the Early Islamic Period“ وهي أطروحته العلمية لنيل الماجستير في جامعة ولاية أوهايو بالولايات المتحدة، يقف عند موضوعة فضائل المدن، والمقارنات التي تجري بين زيارة كربلاء وبين زيارة المدن الأخرى، كمكة والمدينة، وبيت المقدس. يحاول أن يقبض على الإشارات التاريخية المبكرة لهذه الظاهرة، ويستدعي السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي أسس لهذه المقارنات، فبرأيهِ كانت الزيارات الأولى التي حدثت بعد حادثة كربلاء، وفيها زيارة الصاحبي جابر بن عبدالله الأنصاري، وقبله زيارة سليمان بن صرد الخزاعي ومجموعة التوابين، كانت زيارات ذات دلالات محددة، فالأول قدم بزيارته صورة من المشاركة في المعاناة والمواساة، بينما الثاني أسس لصورة الندب والبكاء والتحريض على الثورة كعنوان للتكفير عن الذنب، أي أن الأول محمول على التعاطف الوجداني، والأخير محمول على رغبة التطهر والتكفير عن خذلان الإمام في معركته. هو بالتالي يرى بأن فعل الرثاء والتبرك وكذلك التمرد تحول لاحقًا إلى ناحية البعد الطقسي والتعبدي وانزاح شيئًا فشيئًا باتجاه التعظيم للمكان والتشديد على موقعيته الدينية.

كثيرة هي الأدبيات الشيعية التي انشغلت بهذا الجانب، أي جانب فضائل كربلاء وزيارتها، وفي مقدمتها كامل الزيارات لابن قولويه، وكتاب المزار للشيخ المفيد. فابن قولويه يفرد مساحة واسعة للحديث عن فضائل الزيارة وطقوسها، والمقارنة بينها وبين الحج والعمرة، فضلاً عن فوائد طين قبر الحسين، بينما يمضي المفيد لسرد مرويات فضائل كربلاء ووجوب زيارة الحسين فيها، فسيحاول الباحث هنا استدعاء المشترك الإسلامي والمسيحي في صور التبرك والتشافي بتراب مدافن القديسين الشهداء، والإشارات المتكررة لرائحة المسك التي تفوح من أجساد أولئك الأولياء والصالحين في لحظات الاستشهاد، غير أنه يفضل عدم المغامرة بالقبول بوجود بعد مسيحي في التصورات الشيعية للزيارة.

ثمة ما يشبه التنافس برأي الباحث في تقديم أماكن دينية على أخرى في القرون الأولى من الإسلام، أو هذا ما تصفه النصوص والروايات الدينية على أقل تقدير، فالمدن الإسلامية تنال حظوتها عادة من احتوائها على أماكن مقدسة، وشخصيات وأحداث بارزة في تاريخ الأمة، كما هو الحال مع مكة والمدينة والقدس. ولهذا سنجد أحاديثًا عن فضل الصلاة في بيت المقدس عند الواسطي في ”فضائل البيت المقدس“ والتي تعدل ألف صلاة عمن سواه، ومثلها أحاديث عن مكة والمدينة، في الوقت الذي كانت تغيب فيه الروايات في حق الكوفة وكربلاء والتي جاءت مع اتساع أدب الفضائل، الأمر الذي دفع بعض الباحثين الغربيين على حد قول الكاتب للاعتقاد بأن حضور الكوفة وكربلاء جاء كرد فعل على المساعي الأموية لإعلاء صورة الشام، وذلك ضمن الصراع السياسي بين البيت العلوي والأموي، فكانت الدولة الأموية تمارس محاولة زحزحة للجغرافيا المقدسة ناحية بيت المقدس والشام، وتأكيد تفوقها الديني والسياسي حتى أن بناء قبة الصخرة في عهد عبدالملك بن مروان يراه البعض رد فعل على استئثار ابن الزبير بمكة والمدينة.

هذه المحاولات الأموية إذن ستجد لها في المقابل محاولات شيعية لفرض السلطة الروحية لمدن أخرى هي الكوفة وكربلاء، هذا ما يميل له الباحث وهو يلمح لتأثر فضاء التشيع بتواليات هذا الصراع، وهذه الرغبة في تأكيد أيديولوجية الفريق الدينية، ضمن مرويات إشكالية في بعضها، وبعضها الآخر يحرص على إظهار صلة المكان بالأنبياء السابقين، فيما تتكرر الروايات التي تتفوق فيها زيارة كربلاء على الحج، مع محاولات لتبرير وتفسير هذا اللون من التفوق عند الرواة والشارحين.

واضح من الدراسة أنها تتكئ على جهد باحث سابق هو M J Kister والذي قدم في عام 1996 رؤيته حول الأماكن المقدسة في التراث الإسلامي، وحاول رسم حدود الإجماع والانقسام التي نالت فكرة القداسة للأماكن، والتي عرفت ما يشبه الإجماع برأيه في القرن الأول حول ثلاثة أماكن، وبمعنى أدق ثلاثة مساجد كما في حديث ”لا تشد الرحال..“، قبل أن تتسع لاحقًا لتشمل أماكن عدة، وتنال فيها الشام مع صعود الأمويين نصيبًا من القداسة التي ستستمر في التوسع ضمن أدبيات فضائل الشام، لتصبح الصلاة في مسجد دمشق تعادل ثلاثين ألف صلاة في غيره كما في كتاب نزهة المجالس للصفوري، وتصبح ضمن مدن الجنة الأربعة على الأرض، إلى جوار مكة والمدينة والقدس، كما عند ابن طولون في ”القلائد الجوهرية“، وغيرها الكثير من الأخبار التي وجدت الطريق إلى متون الكتب عبر مرويات كعب الأحبار، الذي كان يهوديًا وعاصر النبي ولكنه أسلم في فترة الخلافة. في المقابل سيجد في أدبيات الشيعة تقديسًا للكوفة وأنها في الروايات ضمن مساجد أربعة وأن صلاة الفرائض فيها تعدل حجة مقبولة، والنوافل تعدل عمرة مقبولة. فضلاً عن رواية للصحابي ابن مسعود يوردها العلوي الحسني في كتابه ”فضل الكوفة وفضل أهلها“، تتحدث عن رؤية النبي في رحلة الإسراء لمسجد كوفان وامتداح جبرائيل له ولأهلها.

والواقع أن أحاديث فضائل المدن وافرة في التراث الإسلامي وتطال مدنًا كثيرة، من قبيل عسقلان وعكا وغيرها. ومسألة النظر في سياقاتها التاريخية والاجتماعية تبدو مسألة مغرية للباحث عن ظلال الصراعات الأيديولوجية في القرون الإسلامية الأولى، باعتبارها واحدة من أدوات السلطة والهيمنة، وهذه الدراسة على حداثتها (2017) تمكنت من التسلل إلى الأدبيات الغربية الحديثة المتكاثرة حول تأثيرات كربلاء في تشكل الهوية الشيعية، وأصبحت استنتاجاتها محل قبول واستشهاد فيها. وربما كانت مساجلتها وفق هذه القراءة التاريخانية لصعود أدب فضائل المدن يهب الباحثين فرصة لتصويب اتجاهاتها وتوسيع دائرة المعرفة فيها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
فاطمة المبارك
9 / 8 / 2025م - 5:48 م
أستاذ أثير أسلوبك في تتبع روايات الفضائل ومقارنة النصوص بين مكة والمدينة والقدس وكربلاء والكوفة يعكس قدرة بحثية متمكنة. لكن يظل السؤال: هل يمكن للبعد الروحي أن يبقى مستقلا عن هذه الخلفيات السياسية أم أنه دوما متأثر بها؟
2
إبراهيم شبر
9 / 8 / 2025م - 8:09 م
تحليلك لأدب فضائل الكوفة وكربلاء ومقارنته مع فضائل الشام يوضح كيف أن الروايات كانت أحيانا ردود فعل متبادلة وليست فقط روايات تعبدية. هذا يفتح مجال لدراسة تأثير السجال المذهبي على إنتاج النصوص