آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 12:09 ص

لورا

هناء العوامي

رأت لورا في المتحف جهازا غريبا عبارة عن شاشة تلفاز كما كتب تحتها، لوحت بكفها تجاه نصف بلورة سوداء مغروسة في الجدار بجانبه سائلة: ”ما هذا؟“.

توهجت البلورة بلونين بنفسجي وأخضر ثم سمعت صوتا يرد عليها: ”مرحبا لورا، هذه شاشة تلفاز، كانت قديما قبل مئات السنين تعرض صورا في بعدين“.

أدركت لورا أنها قربت كفها أكثر من اللازم حيث تمكن الجهاز من قراءة بصمتها الوراثية، الآن يعرف هذا الروبوت كل شيء تقريبا عنها.

وفعلا كانت عبارته التالية كالآتي: ”عزائي الحار بوفاة السيدة أمك، من الجيد أنك بدأت تخرجين من البيت، لا أنصحك بالبقاء كثيرا في البيت وحدك“. لم ترد لورا ومشت مبتعدة عن البلورة التي تحولت مجددا إلى اللون الأسود..

لكنها لم تندم على زيارة المتحف فقد تعلمت الكثير عن حياة البشر الأوائل قبل الجفاف الكبير وقبل هجرة الكثير منهم إلى تيتان أو المريخ، وكذلك عن حياة الناس الآن في المريخ أو الأرض.

”هل أعجبك أنت كذلك؟“ تضايقت لورا من الروبوت الغثيث الذي يصر على ملاحقتها، هي لم تطلب أحد هؤلاء المرشدين الذي يشبه بالونة لكنها مادة صلبة ويظهر بداخلها وجه بشري يتكلم عن المعروضات ويرد على أسئلتك، لكنهم أحيانا يقدمون أنفسهم كخدمة مجانية ويتوقعون منك أن تكون ممتناً..

لكنها حين التفتت وجدت فتاة في مثل عمرها، ما جعلها تشعر بالدهشة، فالبشر نادرا ما يكلمون بعضهم، خاصة شخصا لا تعرفه من قبل، بالإضافة إلى أن أعدادهم هي أصلا أقل من الربوتات بكثير.

هذا غير أن المتاحف ليست مكانا يختاره كثيرون للزيارة، خاصة صغار السن، هي تفضله لأنه مكان قليل الزحام بالإضافة إلى حبها للتاريخ.

”أنا تسنيم“ قالت الفتاة ومدت يدها مصافحة، ترددت لورا قليلا لكنها مدت يدها بابتسامة شاعرة بالراحة لأن تسنيم - على الأقل - لن تقرأ شفرتها الجينية من راحة يدها..

وقبل أن تمر دقائق كانتا قد أصبحتا صديقتين.

هذا هو العام 2740 بعد الميلاد بالتقويم الأرضي، هي لا تعرف الآن أنه بعد حوالي عشر سنوات بالتقويم نفسه ستكون هي وتسنيم في طريقهما إلى كوكب الأرض.

لو لم تلتق لورا بتسنيم لاستمرت زيارتها لنصف ساعة، لكن الآن ومع الثرثرة الممتعة مع صديقتها الجديدة استمرت أكثر من ساعتين..

تكلمتا عن دهشتهما من زمن كان الناس فيه يبنون بيوتهم فوق الأرض وليس تحتها! وعن وجود أجهزة متعددة غير مزودة بذكاء صناعي يجعل المكنسة تلقي التحية عليك قبل أن تبدأ العمل وحدها، وقد تعطيك تعليقات عن ألوان ملابسك أو نصائح بشأن ما تريد تناوله على الغداء.. كذلك بدا للورا خاصة أن فكرة التلفاز الذي يعرض الصور في بعدين ليست سيئة على الإطلاق، تعيش لورا وحدها في وحدة سكنية صغيرة، ورؤية الناس والأشياء في هولوقرام ثلاثي الأبعاد يجعل بيتها يبدو مزدحما... كم كان جميلا أن تجد رسالة نصية بدلا من شخص - حقيقي أو صناعي - يتجلى أمامها لتوصيل رسالة ما أو عرض مشهد أخبار.

عرضت عليها تسنيم تناول العشاء مع عائلتها في بيتهم فذعرت لورا، صحيح أنها ترتاح لها لكن هذا مبكر جدا... ابتسمت تسنيم حين لاحظت ارتياب صديقتها الجديدة قائلة: ”أو ربما في يوم آخر.. إن كان لديك خطط أخرى“ ثم أخذت على الفور تثرثر حول أمر آخر..

هذا ما كان في تيتان.

*****

بعد عشر سنوات وبضعة أشهر ها هي لورا تمشي بجوار تسنيم على كوكب الأرض، بعد اجتماعهن بخمس صديقات لهما... الآن أصبحت لورا تقبل دعوات تسنيم للعشاء في بيتها أو في اجتماع الصديقات بلا حرج.

أنهت لورا دراسة التاريخ قبل هجرتها إلى الأرض وهو تخصص مطلوب على هذا الكوكب أكثر من تيتان، وهذا كان أحد أسباب هجرتها من تيتان، هي الآن تشرف على تدريس أكثر من ألفي طالب، عن بعد وبمعونة الذكاء الصناعي، أما تسنيم فهي مهندسة برمجة، تخصصها مطلوب في كل الكواكب، وقد جاءت إلى الأرض بما أن عائلتها جاءت، تسنيم يخاف منها كل الروبتات، وحتى الربوتات المتطورة التي تشبه البشر، والتي لا تستطيع لورا أن تميزهم عن البشر، فإن تسنيم تميزهم بنظرة واحدة، فإن قرر أحدهم أن يحاول الكلام معها، فسوف تجد طريقة لإقحام بعض المفردات في حديثها يجعله يدرك أنها تعرف حقيقته وتستطيع التخلص منه - حرفيا - إن رغبت، وبالتالي فإنهم يتجنبونها ما لم تكن هي تريدهم.

لورا لها شعر بني فاتح ينسدل حتى كتفيها، أما تسنيم فلها شعر أسود وحواجب مقرونة، وقبل اجتماع الصديقات ذهبتا معا إلى محل للتجميل يخلو من البشر، حيث يكفي ان تستلقي الواحدة عشر دقائق تحت جهاز يضع لها مساحيق الزينة باستخدام الذكاء الصناعي بعد أن تختار النمط الذي تفضله.

حين اقتربت من منزل تسنيم اقترب شاب وسيم ليتحدث معها بتبسط شديد، فهمت لورا من حديثهما أن اسمه ”بهدار“ وأنه وتسنيم يعرفان بعضهما من مدة ليست باليسيرة..

كانا يتكلمان ويضحكان وكأنها غير موجودة، ثم منحها ابتسامة ساحرة جعلت وجهها يحمر، قبل أن يحييهما مستأذنا للانصراف..

لورا ”:“ وهل يسمح أهلك بهذا؟"

تسنيم: ”بماذا؟“.

التفتت لورا إلى الجهة التي انصرف إليها بهدار قائلة: ”هذا“...

ضحكت تسنيم حتى دمعت عيناها، فضربتها لورا على كتفها قائلة: ”كفي عن ذلك“.

”يبدو أنكِ معجبة به، لورا الانطوائية معجبة بشاب“

”أنا حتى لا أعرفه“ صاحت لورا..

”لكن من الواضح أنكما تعرفان بعضكما منذ زمن طويل“ أكملت..

تململت تسنيم وعبست قائلة: ”لقد تعبت من الوقوف، هل ستدخلين معي للثرثرة مع أمي بعض الوقت، أم نفترق الآن؟“.

”لن تتخلصي مني بهذه السهولة قبل أن أعرف قصة هذا الأخ، ولا أظنني أريد الكلام عنه أمام أمك“.

ابتسمت تسنيم بطريقة تنم عن شعورها بالتسلية ولم ترد.. لكنها أكملت طريقها لدخول البيت، فتحت القفل بالتلويح أمامه ليقرأ شفرتها الوراثية وتظهر عبارة ”أهلا بكِ في منزلك“ طافية في الهواء أمامها.

لحقت بها لورا صامتة....

لم يكن ثمة أحد في بهو المنزل، قالت تسنيم: ”أنوار هادئة“ فأضاء بهو البيت بأنوار هادئة.

- ”هل كان زميلا لكِ في دراسة هندسة الروبوتات؟ يبدو أنه يعرف الكثير عنها مثلك“.

- ”اسمها ليس هندسة الربوتات، بي 12 أحضر لنا كوبين من الصودا مع الكثير من الثلج“.

- ”على كل حال، إنه شاب مهذب“

قالت لورا متظاهرة بعدم الاكتراث.

- ”مهذب نعم، لكنه ليس شابا“.. قالت تسنيم وهي تضع رجلا فوق الأخرى وتجلس باسترخاء بينما تتناول كوبي الصودا بالثلج من بي 12

- ”حسنا، كلهم يأخذون علاج منشط التيلوميراز بعد الأربعين، وبعضهم بعد الثلاثين، أراهن أن روزا ستأخذه قبل أن تكمل سنة تيتانية واحدة“.

ابتسمت تسنيم وهي ترشف من كوب الصودا الشفاف باستمتاع ولم ترد، توجد أكواب تبرد المشروبات تلقائيا، لكنها تفضل الثلج على الأكواب الذكية المتحذلقة تلك، كي تقضمه بعد أن تنتهي..

- ”قد يكون له أولاد بعمرنا، لكن ما أقصده هو أنه إنسان مهذب“.

- ”هل خاب ظنك؟“ قالت تسنيم بخبث قبل أن تكمل: ”على فكرة لا أنصحك باستخدام مصطلح سنة تيتان كثيرا، هنا على كوكب الأر..“

- ”سنة زحل“ قالت لورا مقاطعة.

- ”ولا سَنة زحل، أنت مُدرِّسة تاريخ بحق السماء، فالتزمي بتقويم الأرض“.

- ”التاريخ يشمل تاريخ الجنس البشري في المريخ وتيتان، ثم ماذا تقصدين بأنه قد خاب ظني؟“.

احمر خدا لورا وازدادت حدة صوتها وهي تتفوه بالعبارة الأخيرة.

هنا دخلت والدة تسنيم فرحبت بلورا بحرارة وسألتهن إن كن تناولن العشاء..

- ”كنا نتكلم عن بهدار“ قالت تسنيم.

صُدمت لورا من كلام صديقتها عن صديقها لأمها بهذه الأريحية، لكنها أَخذت تلوم نفسها لتفكيرها بأن محادثة تسنيم البسيطة مع الشاب يفترض أن تسبب حرَجا ما، قد يكون أحد أقارب تسنيم من بعيد.

لكنها وجدت نفسها تُفاجأ بالأم وكأنها لم تسمع العبارة أصلا وهي تسألهما إن كانتا تريدان تناول بعض المثلجات بماء الورد والمكسرات.

ثم ذهبت لإحضارها بنفسها قبل أن يأتيها الرد.

- ”مُعظم التواصل الاجتماعي في زمننا البائس يتم عن بعد، وكأننا نتجنب وباء ما ونخشى العدوى“ قالت تسنيم بجدية...

أخذت شهيقا قبل أن تكمل: ”لهذا لا ألوم دهشتك من حديثي مع بهدار أو إعجابك السريع به“.

- ”أنا لم أعجب ب..“ قالت لورا بعصبية، لكن تسنيم قاطعتها بهدوء: ”نعم، أعد نفسي محظوظة على وجود صديقة مثلك في حياتي، بالإضافة إلى بقية الشلة طبعا!“.

قالت ذلك وهي تمسك بيد لورا وتبتسم.

أرادت لورا أن ترد بأنها هي المحظوظة لأن تسنيم وأهلها كانوا لها أقرب ما يكون إلى العائلة التي لم تعرفها، لكنها عجزت عن الكلام خاصة بعد اتهام صديقتها لها للتو بأنها قد تكون أعجبت بذلك الرجل الذي التقته لأول مرة، شعرت بأنها تكرهه وتتمنى لو لم تقابله، ثم نظرت بتعجب إلى الاتجاه الذي ذهبت إليه أم تسنيم لتحضر الحلوى.

- ”هههههههه أمي تعرف أنه روبوت“.

قالت تسنيم..

لورا: ”؟؟؟؟؟“

تسنيم: ”ماذا؟“

وصلت أم تسنيم ووضعت الحلوى أمام البنتين وابتسمت لهما بحنان قبل أن تتركهما على وعد بأن تعود بعد دقائق معدودة.

ابتهجت تسنيم لرؤية الحلوى المفضلة والتي تعتبر وصفة نادرة في ذلك الزمن، فابتسمت ابتسامة عريضة وهي تقدمها لصديقتها قائلة: "بَهْدار ليس شابّا ولا مُسنا لأنه روبوت متطور، ليس كل الربوتات مثل بي 12، بعضهم نادر ومتطور للغاية وصُنع ليشبه البشر، لورا...

لماذا لا تأكلين؟ هذه المثلجات يُنصح بأكلها قبل أن تذوب".