غرباء البركان الأبكم
ليسوا أولئك الذين يصرخون في العلن، بل من يسكن فيهم الصراخ ولا يُقال.
قلوبهم فوهات مغلقة، لا ينقشع منها الدخان، لكن تحتها تنصهر الحياة.
هم الذين يبتسمون… وفي أعماقهم طينٌ ملتهب.
لا أحد يسمعهم، لأنهم تعلموا أن يصمتوا كالنار حين تُحبس في الجبال.
حين يرتدي العالم وشاح السكون، تنهض الوحدة من مرقدها، تتجول في أروقة الروح كضيفٍ لا يغادر. هنا، حيث يتمدد الألم كظلٍ كثيف، يبدأ العقل في رقصة لا إيقاع لها سوى فوضى الروح.
هو عقلٌ كعاصفة لا تهدأ، تتلاطم فيه الأفكار كأمواج هادرة، تارة تبتلعه في قاع اليأس، وتارة أخرى تلقي به على شاطئ الأمل، لتتكسر هذه الأمواج من جديد على صخرة الواقع.
تتسلل التقلبات المزاجية كأشباحٍ باردة، تغزو القلب دون سابق إنذار. لحظة يشتعل فيها القلب بلهيب الفرح، وفي اللحظة التالية ينطفئ في ظلام حزنٍ عميق. الجميع يرى السطح الهادئ، لكن لا أحد يجرؤ على الغوص في بحر الأعماق المضطرب. يُترك وحده في صراعه، يواجه عواصفه الداخلية بمفرده، وكأنه يصارع طواحين الهواء في عالم لا يملك فيه سلاحًا سوى حساسيته المُفرطة.
لكن ما لا يُقال غالبًا هو أن هذه التقلبات ليست مجرد حالات عابرة، بل هي حلقة سقوطٍ متكررة في هوةٍ يسميها العلم اكتئابًا، ونسميها نحن موتًا بطيئًا للحياة في داخلنا. هو ليس حزنًا تقليديًا، بل خدرٌ داخلي، انطفاءٌ لا يُرى من الخارج، لكنه يفتك بالداخل. في كل مرة يبدو فيها الشخص طبيعيًا، هناك جزء منه يتآكل بهدوء، كجدارٍ يتهاوى دون أن يُصدر صوتًا. هذا النوع من الاكتئاب، كما توضح الجمعية الأمريكية للطب النفسي، يُصيب المصابين بـ ADHD بنسبة تتجاوز 30% مقارنة بغيرهم، وهو من أكثر التحديات صمتًا وخطرًا لأنه غالبًا ما يُساء فهمه [APA, DSM-5-TR, 2022].
تأتي الكوابيس في ثنايا الليل، ليست مجرد أحلام، بل حقيقة مؤلمة تتجسد في صور مرعبة، تُعيد تشكيل الألم وتكراره. هي بوابات سوداء تُفتح على جحيم الماضي، حيث تتجسد المخاوف في أشكال وحوش لا ترحم. ينهض من نومه، وقد اختلطت ملامح الواقع بالخيال، تاركًا خلفه بقايا رعبٍ ذات طعمٍ مرٍّ لا يمكن محوه.
ما أثقل أن يكون عقلك أرشيفًا ضخمًا ومُبعثرًا من الأفكار، لا يعرف الصمت، وتأتيك الكلمات من الخارج كما لو كانت تعليمات بسيطة: ”فقط توقّف عن التفكير.“ لا يعلمون أن بعض العقول لا تعرف السكون، وأن محاولة التوقف ليست إلا طبقة أخرى من التفكير.
وما أقسى أن تُواجه كل يومك بجملة مقتضبة: ”أنت حساس.“ كما لو أن الحساسية ترفٌ اختياري، أو ضعف يجب التخلّص منه. لكنهم لا يرون الحقيقة. وما أقسى أن تكون الرهافة قدرًا لا فكاك منه، أن تعيش بعينٍ ترى ما لا يُرى، وبقلبٍ يسمع ما لا يُقال. لا يسألون كيف تحتمل كل هذا الاتساع في الإحساس، بل يرمقونك وكأنك اخترت أن تُبالغ، أن تفيض، أن تَتعب. لا يعلمون أن الحساسية ليست خيارًا، بل هي وعيٌ جارف، عبءٌ يُولد معك، يُرافقك. وقد قال إلين آرون، المتخصصة في علم النفس، إن الأشخاص ذوي الحساسية العالية يملكون جهازًا عصبيًا يستجيب بعمق لكل ما حولهم [Aron, 1996].
وقد ألمح الفيلسوف فريدريك نيتشه إلى هذا الألم العميق، إلى أن ما لا يقتلنا يجعلنا أقوى، وكأن المعاناة هي الثمن الذي يُدفع من أجل رؤية فريدة، وكأن النفوس العالية الحسّ، مهما بدت صامتة، تُحاصرها الرياح من كل الجهات.
وفي هذا العمق، كما قال كارل يونغ، من ينظر إلى الداخل يستيقظ، لكن أي يقظةٍ هذه التي تؤلم أكثر من النوم؟ وأي داخلٍ هذا الذي تُرهقه الحواس والذهن والذاكرة؟
في دوامة هذا الألم، يجد نفسه وحيدًا. عقلٌ مُرهق، وقلبٌ موجوع، وروحٌ تائهة تبحث عن ملاذ آمن. لكن السؤال الأكثر قسوة لا يزال يطرق أبواب الروح:
حين يكون هذا العالم، الذي يُفترض أن يكون موطننا، مجرد قفص من الصدى، وحين تكون أسرّتنا، التي يُفترض أن تكون مسكناً للراحة، مجرد مقابر لأرواحنا المنهكة...
فأين نذهب بألمنا، حين يكون عالمنا جحيمًا وأسرّتنا مقابر لنا؟