آخر تحديث: 26 / 8 / 2025م - 11:56 م

ضريبةُ الرأي..

عماد آل عبيدان

يُقال: ”الاختلاف في الرأي لا يُفسد للودّ قضيّة“،

لكن كم من القضايا أفسدها مجرد رأيٍ لم يُصَغْ على هواهم؟

وكم من ودٍّ انقلب جفاءً لمجرد أنك قلتَ: ”أنا أرى الأمر من زاوية أخرى“؟

صارت العبارة شعارًا يُلصق على الجدران، لا قاعدة تُمارَس في الأذهان.

جميلةٌ في ظاهرها، لكنها تنهار عند أول اختلافٍ يتسلّل إلى الطاولة.

وحين يقع الخلاف… يُنسى الود، وتُستحضر كل أدوات الإلغاء، وكأن الرأي المختلف ليس مجرد صوت، بل صفعةٌ في كرامتهم.

في نقاشات الواقع، لا أحد يبحث عن الحقيقة… بل يبحث معظمهم عمّن يؤكّد له أنه على حق.

لا يريدون رأيًا آخر، بل نسخةً مكرّرة من آرائهم بصوتك أنت.

وإذا تجرّأتَ وقلت: ”أنا أختلف“،

تحوّل النقاش إلى معركة إثبات وجود، لا تفاهم،

وتحوّل الودّ إلى قناعٍ هشّ… سقط مع أول صدمة.

بلاغة الشعارات لا تعني صدقها.

ليست كل الأقوال قوانين.

ففي الواقع، ”اختلاف الرأي لا يُفسد للود قضية“ … إلا حين يكون الود هشًّا، أو مشروطًا، أو مزيّفًا منذ البداية.

وفي الحياة، رأينا - ولا نزال نرى - كيف يُستبدل الحوار بالتشهير، والنقاش بالإقصاء، والتنوّع بالاستعداء… لمجرد أن أحدهم لم يُصفّق!

ولنكن صريحين…

كثير من قضايا ”الودّ“ في التاريخ — من صداقة، أو نسب، أو شراكة، أو حتى حب — سقطت بمجرد أن قال أحدهم: ”أنا لا أرى ما ترى“.

فالرأي المختلف، في نظر بعضهم، ليس اجتهادًا… بل خروجًا عن الطاعة!

ليس زاوية نظر… بل انشقاقًا.

هؤلاء لا يريدون صداقتك، بل يريدون ولاءك.

ولا يعترفون بالرأي الآخر، إلا إذا كان مؤيدًا.

وإن خالفته، انقلبوا عليك بأسلحتهم ”الناعمة“: التلميح، الإقصاء، التهميش، وربما التشكيك في نيتك وسلامة عقلك.

الحقيقة؟

ليس كل من يدّعي التسامح متسامحًا،

وليس كل من قال لك: ”اختلافنا لا يُفسد للود قضية“، كان صادقًا في ودّه.

بعضهم يقولها فقط ليبدو مثقفًا، لا لأنه فعلاً يقبل اختلافك.

ثمّة وهمٌ يتسلّل إلينا منذ الصغر…

أن الاختلاف عيب، وأن الاتفاق دليل محبة.

بينما الحقيقة أن العقول الكبيرة تختلف وتحترم،

والنفوس الصغيرة تختلف فتُخاصم.

فلا تبحث عن اتفاق دائم مع الجميع،

بل عن مساحات يُحتمل فيها الاختلاف دون أن تُطعن فيها إنسانيتك.

وإن وجدت شخصًا يختلف معك ولا يُقصيك… فتمسّك به،

فهو من القِلّة الذين لم تفسد ”قضايا الودّ“ عندهم برأي.

في مجتمعاتنا، غالبًا لا يُكافَأ الصدق،

بل يُكافَأ الصمت، والمسايرة، والموافقة العمياء.

فكن على وعي: أن ثمن رأيك قد يكون غاليًا… لكنه يُبقيك نقيًّا، ويُبقي ملامحك واضحة في مرآة ضميرك.

ليست كل القلوب تتّسع للاختلاف،

وليس كل ”الودّ“ يستحق أن يُسمّى وُدًّا.

فالودّ الذي يتكسر عند أول منعطف فكري…

ليس وُدًّا… بل مشهدًا تمثيليًا طويلًا، انتهى بمجرّد أن خرجتَ عن النصّ.

فلا تُحبط حين تُعاقَب لأنك قلتَ رأيك.

ولا تحزن حين يسقط القناع مع أول اختلاف.

فالحقيقة لا تضيع بين الشعارات…

بل تُضيّعها النفوس التي لم تتعلّم كيف تحترم إنسانًا، وإن خالفها.

كن صادقًا… كن حرًّا… كن رأيًا لا صدًى.

وإن كنتَ مختلفًا…

فلا تخف أن تبقى، ولو وحدك، على الضفة الأخرى،

فأحيانًا…

تكون الحقيقة هناك.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
حسين المبارك
7 / 8 / 2025م - 12:53 م
صدقت استاذ عماد.... نحن نرفع شعار التسامح لكننا نمارس الإقصاء عند أول اختلاف
2
عبد الله
[ صفوى ]: 7 / 8 / 2025م - 3:41 م
عبارة «كن رأيا لا صدى»… تلخص فلسفة الحرية الفكرية في ثلاث كلمات. أحسنت استاذ عماد
3
عماد آل عبيدان
9 / 8 / 2025م - 3:37 م
بالفعل يا أ. حسين، كثير من الشعارات عندنا محفوظة في اللسان… لكنها لا تجد مكانها في السلوك.
الاختبار الحقيقي للتسامح يبدأ حين نسمع ما لا يوافق أهواءنا، وهناك فقط يتضح إن كان التسامح مبدأً… أم ديكورًا للخطاب.
4
عماد آل عبيدان
9 / 8 / 2025م - 3:40 م
أشكرك يا أ. عبدالله…
فـ “كن رأيًا لا صدى” ليست دعوة للمخالفة من أجل المخالفة، بل لتكون حاضر العقل والضمير، تصنع فكرتك بوعيك لا بنسخك من غيرك.
الحرية الفكرية لا تعني أن نختلف دائمًا، لكنها تعني أن نعرف لماذا نتفق… ولماذا نختلف.