آخر تحديث: 26 / 8 / 2025م - 11:56 م

الحياء فضيلة أخلاقية كبرى يجب التحلي عليها

غسان علي بوخمسين

تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لإحدى الفتيات في عمر صغيرة لا يتجاوز عشر سنوات، وهي تردد كلمات أغنية عاطفية لأحد المطربين في حفل غنائي ضخم أقيم في إحدى المدن العربية قبل أيام قليلة، كانت الطفلة تجهش بالبكاء وتردد متأثرة كلمات الأغنية. المقطع أصبح ترند لعدة أيام، وجرى تداوله على نطاق واسع وسط تعليقات متنوعة، أغلبها يهاجم الطفلة ويسخر من تصرفها غير المناسب، كون هذا النوع من الأغاني يناسب الأشخاص الأكبر سناً، والبعض هاجم أهلها واتهمهم بالتقصير في تربيتها وحذر من خطورة وضع الجيل الصغير وانهيار القيم لديه، وآخر دافع عن تصرفها والتمس لها المعاذير بأشكالها، وهاجم من تنمّر عليها واتهمها اتهامات باطلة في رأيه.

لكني هنا لست معنياً ومهتماً بتصرف الطفلة العفوي بالبحث عن دوافعه وأسبابه، بل ما يهمني هو قضية انتهاك الخصوصية بتصوير الآخرين بدون علمهم أو إذنهم، وذلك طلباً لتسجيل الترند والحصول على «مقطع فيروسي» ينتشر كالنار في الهشيم في ساعات قليلة، ولو كان هذا العمل غير جائز أخلاقياً وقد يكون محرماً دينياً، لما فيه من انتهاك للخصوصية وتعدي على الكرامة والتشهير والتنمر على الآخرين وإشاعة الباطل والانشغال بالتوافه وهدر الوقت فيما يضر ولا ينفع.

ينبغي علينا النظر للموضوع بجدية واهتمام فهو يستحق ذلك، فكرامة الآخرين أمر عظيم وخطير، وقد كفله الشارع المقدس وأكد عليه في القرآن والسنة في نصوص كثيرة، ووضع القواعد والتعاليم الأخلاقية الناظمة له، بل وسنّ الأحكام الشرعية الرادعة لمن يتجاوز الحدود ويتعدى على الحرمات، وهذا كل من أجل الحفاظ على كرامة الإنسان وصيانة مكانته وسمعته وكل ما يتعلق به مادياً ومعنوياً.

نعيش حالياً في عالم سيطرت عليه التقنية الرقمية سيطرة كلية، وأصبحت هذه التقنية هي المحرك والمؤثر الحقيقي في تفكيرنا وسلوكنا، وهذا يشكل خطورة شديدة على الجانب الأخلاقي من حياتنا، علينا مراجعة أنفسنا مراجعة صادقة والعودة بها إلى الأسس الأخلاقية التي جاء بها ديننا الحنيف، لترجع أنفسنا طاهرة نقية وتتخلص من هذا التلوث الذي شابها نتيجة التأثير السلبي للتقنية الرقمية.

في كتابه ”دين الحياء: التحديات الأخلاقية لثورة الاتصال“ «2021»، يقوم الدكتور والفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن بتشخيص مشكلات العصر الرقمي، ويُقدِّم مفهومًا أصيلاً ومُجدَّداً «وهو معروف بابتكاره للمفاهيم والمصطلحات الجديدة»: الحياء، كدرعٍ أخلاقيٍّ يمكن أن يحمي الإنسان من التحديات التي أفرزتها ثورة الاتصال.

يرى طه عبد الرحمن أن ثورة الاتصال، بأدواتها مثل وسائل التواصل الاجتماعي، خلقت أزمةً أخلاقيةً عميقةً. هذه الأزمة لا تقتصر على انتشار المعلومات المضلِّلة أو التنمّر، بل تتجاوز ذلك إلى انفصال الإنسان عن ذاته الحقيقية وعن قيمه الأصيلة. فقد أصبحت البيئة الرقمية تُشجّع على التظاهر والتفاخر بالذات، مما يُضعف من قيمة التواضع. كما أنها تُسهّل انتهاك الخصوصية، وتُشجّع على الوقاحة والتهجّم تحت ستار الأسماء المستعارة.

في مواجهة هذه التحديات، يُقدِّم المؤلف ”الحياء“ ليس مجرد فضيلةٍ فرديةٍ، بل كمبدأٍ تأسيسيٍّ يُنظِّم سلوك الإنسان كله. الحياء في منظور طه عبد الرحمن هو شعورٌ داخليٌّ بالخجل من التقصير في حق الله، وبالخوف من الإساءة للآخرين. هذا الشعور يُولِّد رقابةً ذاتيةً قويةً تجعل الإنسان يلتزم بالأخلاق حتى في غياب الرقيب. فالحييّ لا يتجرأ على نشر الأكاذيب، ولا يُقدم على التنمّر، ولا يستعرض حياته بغرور، لأنه يشعر بالمسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين، وقبل ذلك كله تجاه خالقه.

إن ”دين الحياء“ هو الدين الذي لا ينفصل فيه القول عن العمل، ولا المعرفة عن الأخلاق. إنه يُعيد للمتدين توازنه، ويُعزّز من إيمانه، ويُذكّره بأن أخلاقه هي انعكاسٌ لتدينه.

إن دعوة طه عبدالرحمن ليس مجرد تحليلٍ للتكنولوجيا، بل هو دعوةٌ فلسفيةٌ وأخلاقيةٌ عميقةٌ إلى إعادة بناء الإنسان، في عصرٍ يُهدّد فيه الاتصال السريع بتفكيك قيمه الأخلاقية.

ولهذا نحن أمام سؤالٍ مُلحٍّ: كيف يمكننا أن نستعيد الحياء كقيمةٍ مُوجِّهةٍ في حياتنا الرقمية؟

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
فاضل مدن
[ القطيف ]: 6 / 8 / 2025م - 2:16 م
الطرح عميق يا أستاذ غسان وربطه بكتاب طه عبدالرحمن أضاف بعدا فلسفيا قويا. فعلا الحياء هو درع الإنسان في زمن الانفلات الرقمي.
2
كوثر درويش
[ سيهات ]: 6 / 8 / 2025م - 5:36 م
كلامك عن انتهاك الخصوصية أصاب عين الحقيقة… بعض الناس صاروا يصورون الآخرين بلا إذن وكأن حياتهم مشاع.
3
ليلى حمود
6 / 8 / 2025م - 9:08 م
والله أستاذ أولادنا محتاجين يسمعون عن الحياء أكثر من أي وقت… مو بس الحشمة في اللبس حتى في الكلام والنشر