آخر تحديث: 26 / 8 / 2025م - 11:56 م

العيش في الوهم الاجتماعي

هاشم الصاخن *

حين تُمنح شهادة دراسيَّة، فهذا يعني أنَّك اجتزت جميع الامتحانات التي تؤهلك للحصول عليها؛ لأنَّك تستحقها فعلًا، وهذا أمر طبيعي ومعروف ومعقول. لكن حين تمنح نفسك ”وجاهة اجتماعيَّة“، فالأمر مختلف تمامًا؛ إذ لا توجد شهادة مكتوبة ولا لجنة تقييم، ولا سجل إنجازات حقيقي يثبت أنَّك أسهمت في حلِّ المشكلات أو تطوير المجتمع أو دعم المبادرات؛ فكلُّ ما يتطلبه الأمر - لدى البعض - هو تسليط الأضواء باستمرار، وتكرار الحضور في المحافل التي تمنح شيئًا من الوجاهة، وإيهام النَّاس بأنَّ جدولك مزدحم بالزِّيارات والاجتماعات والنقاشات، بينما الحقيقة قد تكون أقل بكثير ممَّا يُروَّج لها.

هذه الظَّاهرة لا تصنعها يد واحدة؛ فقد تنبع من الشَّخص نفسه برغبته في تضخيم حضوره، أو من المحيط الذي يرفع من شأنه ويمنحه ألقابًا بلا رصيد، أو من النَّاس الذين يكتفون بالمظهر ويغفلون عن الجوهر. ومع مرور الوقت، تتحوَّل هذه الممارسات إلى ثقافة تضر بالمجتمع، وتضعف قيمة القدوة الحقيقيَّة، وتشوه صورة العمل الاجتماعي. ومن هنا تبرز أهميَّة فهم أسبابها، ورصد آثارها السلبيَّة، والبحث عن سُبل معالجتها قبل أن تتجذر وتصبح أمرًا مألوفًا.

أوَّلًا: أسباب الظاهرة

تنشأ هذه الظَّاهرة من عوامل عدَّة متداخلة، تبدأ من الشَّخص نفسه الذي تدفعه الرَّغبة في لفت الأنظار وإشباع حب الظهور، أو البحث عن لقب ومكانة اجتماعيَّة من دون جهد حقيقي يوازيها. ويزيد الأمر تعقيدًا حين يسانده المحيط القريب بمجاملة الأصدقاء والأقارب أو التَّرويج له بحسن نيَّة على الرغم من ضعف إنجازاته، ومنحه ألقابًا رنَّانة بلا معايير واضحة أو تقييم موضوعي، فضلًا عن المبالغة في نشر صوره وأخباره لإظهاره بمظهر المؤثر والفاعل. ويسهم المجتمع بدوره في ترسيخ هذا الوهم عبر ثقافة الانبهار بالمظاهر والاكتفاء بالصورة الخارجيَّة من دون التَّحقق من الجوهر، وغياب معايير دقيقة لقياس العمل الاجتماعي الحقيقي، إلى جانب سرعة تداول الأخبار والانطباعات عبر وسائل التَّواصل بلا تدقيق، ما يمنح هذه الصورة الزَّائفة فرصة للانتشار والتَّجذر.

ثانيًا: الآثار السلبيَّة

لا تتوقف آثار الوهم الاجتماعي عند حدود المظهر؛ بل تتجاوز ذلك لتترك بصمات سلبيَّة عميقة على الفرد والمجتمع؛ فعلى مستوى الفرد، يعيش صاحب هذا الوهم أسيرًا لصورة مصطنعة، يرهقه الحفاظ عليها بالتَّصنع الدَّائم، ويخشى انكشاف حقيقتها. ومع مرور الوقت، قد يفقد ثقة النَّاس حين يدركون أنَّ إنجازاته لا تتناسب مع الصُّورة التي رسمها لنفسه، كما يحرم نفسه من تطوير قدراته بالعمل الجاد؛ لأنَّه اعتاد التَّقدير بلا جهد يذكر.

وأمَّا على مستوى المجتمع، فإنَّ بروز هذه النَّماذج يزاحم الشَّخصيات المخلصة والفاعلة حقًا، ويحجب عنها الضَّوء والدَّعم الذي تحتاجه للاستمرار. بل إنَّ بعض المستحقين للظهور، حتَّى لو كانوا يعملون في المجال التطوعي، قد يصيبهم الإحباط حين يرون التَّقدير والاهتمام يذهب لمن لا يملك نفس الرصيد من العمل الحقيقي، ممَّا قد يدفعهم للعزوف عن المبادرة أو تقليص جهودهم. إضافة إلى ذلك، فإنَّ انتشار ثقافة المظاهر يخلق بيئة سطحيَّة تحكمها الانطباعات السَّريعة لا الحقائق، فيضعف معيار الكفاءة، وتتراجع قيمة العمل الجماعي والإخلاص، وتُهدر طاقات المجتمع على متابعة الأضواء الزَّائفة بدل دعم الإنجازات الحقيقيَّة. ومع الوقت، يتحوَّل هذا الخلل إلى عائق أمام التنميَّة المجتمعيَّة، ويشجع على سلوكيات قائمة على التلميع لا على الإنتاج.

ثالثًا: سبل المعالجة

إنَّ التَّصدي لظاهرة الوهم الاجتماعي يتطلَّب وعيًا جماعيًا وتعاونًا بين الفرد والمجتمع، حتَّى تعود القيمة الحقيقيَّة للعمل هي المعيار الأوَّل للتقدير. ويبدأ ذلك من تعزيز ثقافة التَّحقق والتَّمييز بين المظهر والجوهر، وعدم منح الألقاب أو الثَّناء إلَّا بعد التَّأكد من وجود رصيد حقيقي من الإنجازات. ومن المهم أيضًا أن يحرص المجتمع على إبراز النماذج الصَّادقة والفاعلة ودعمها معنويًا وإعلاميًا، حتَّى تكون قدوة لغيرها، مع إعادة تعريف الوجاهة الاجتماعيَّة وربطها بخدمة النَّاس والعمل الفعلي لا بكثرة الحضور أو الصور والمناسبات. وعلى المؤسسات والجمعيات أن تضع معايير واضحة وشفافة لقياس أثر العمل وتكريم المستحقين بناءً على نتائج ملموسة، مع نشر الوعي بخطورة الألقاب الفارغة والمظاهر الخادعة. والأهم من ذلك كله، أن نمتنع عن إعطاء هذه الشَّخصيات أكبر من حجمها، حتَّى ولو على سبيل المجاملة؛ لأنَّ هذا السلوك يغذي الوهم ويطيل عمره، ويجعل من المظاهر الزَّائفة أمرًا مألوفًا على حساب الإنجاز الحقيقي.

قد يلمع الوهم الاجتماعي في البداية، لكنه سرعان ما يتلاشى أمام قيمة العمل الصَّادق. ومنح الألقاب بلا استحقاق لا يضر المجتمع فحسب؛ وإنَّما يهمِّش أصحاب الجهد الحقيقي. والمسؤوليَّة مشتركة بيننا جميعًا في تقدير الجوهر على المظهر، والامتناع عن المجاملات التي تطيل عمر الوهم؛ فالمكانة الحقيقيَّة لا يصنعها الضَّوء المؤقت؛ بل ما يتركه الإنسان من أثر نافع يبقى بعد غياب الأضواء.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 5
1
فاطمة المبارك
[ صفوى ]: 7 / 8 / 2025م - 11:26 ص
المقال يسلط الضوء على جرح اجتماعي مزمن… ثقافة تلميع الأسماء قبل الأفعال. أحييك على الطرح استاذ هاشم
2
علي مكي
[ سيهات ]: 7 / 8 / 2025م - 1:37 م
صحيح كلامك سيدنا… في ناس تسوي حفلة على صورة بجريدة بس لما تدور أثرهم ودورهم تلقى ما ميش
3
حسين حبيب
[ القديح ]: 7 / 8 / 2025م - 7:14 م
الوهم الاجتماعي مو بس يضر المجتمع حتى صاحبه يعيش تحت ضغط تمثيل دور ما هو له وهذي حياة متعبة
4
زينب
[ تاروت ]: 7 / 8 / 2025م - 10:26 م
ثقافة الانبهار بالمظاهر مش جديدة لكنها صارت أخطر مع السوشال ميديا وهنا دورنا كلنا في كسر الدائرة
5
صادق
[ سنابس ]: 7 / 8 / 2025م - 11:42 م
أتفق معك إن المجاملة الزايدة تعيش الوهم لكن بعض الناس يسوونها من باب إكرام الضيف وما يدرون عن أثرها السلبي
سيهات