آخر تحديث: 26 / 8 / 2025م - 11:56 م

الجوهر المُسوَّق: البراند الداخلي كمرآة للروح

عبير ناصر السماعيل *


في رحلتنا المستمرة لاستكشاف الهوية، انطلقنا من فكرة ”البراند“ كمفهوم عام، ثم تجرأنا وأسقطنا ”لغة السوق القاسية“ على الكيان الإنساني، متسائلين عن معنى أن يكون للإنسان ”علامة تجارية“. وقد أثمرت هذه الرحلة حوارًا خصبًا، تجلى في التعليقات العميقة على مقال ”قشرة النواة… حين يُختبر العمق من أول نظرة“. إن هذه التعقيبات لم تكن مجرد ردود فعل، بل كانت أبوابًا جديدة للمعرفة، وأنا ممتنة لها لأنها تدفعنا دومًا للبحث أعمق.

ومن بين هذه الأبواب، كان بابًا فتحته الأستاذة زينب حسين بتعليقها الذي لا يزال صداه يتردد في فكرنا:

”أعتقد الكتابة تحتاج عمقًا أكثر في نقد مفهوم“ البراند الداخلي ”لأنه يحمل مخاطر مثل تضخيم الصورة الذاتية أو الغرق في قشرة الانطباع. فلسفيًا، البراند قد يختزل ويفخم.“

هذا التعليق الثاقب يدفعنا لسؤال جوهري: قبل أن نُسقط مفهوم ”البراند الداخلي“ على الإنسان، دعونا نعد إلى أصله في عالم التجارة. هل للمنتج أو للشركة ”براند داخلي“ و”براند خارجي“؟

أصل الحكاية: منطق السوق وتقسيم العلامة

في علوم التسويق والإدارة، الإجابة هي نعم، بشكل قاطع. هناك تمييز واضح بين ما يراه العميل وما تعيشه الشركة في الداخل.

• البراند الخارجي «External Brand»: هذا هو كل ما يراه الجمهور. يشمل الهوية البصرية «الشعار»، الرسائل الإعلانية، والتصورات الذهنية التي يبنيها الناس عن المنتج. يُطلق عليها خبراء مثل ديفيد آكر «David Aaker» في كتابه ”Building Strong Brands“ اسم ”هوية البراند“ «Brand Identity».

• البراند الداخلي «Internal Brand»: هذا هو ”سر الخلطة“. إنه روح الشركة وقيمها وثقافتها. يُطلق عليه غالبًا اسم ”جوهر البراند“ «Brand Essence». ويتجلى في عملية ”التسويق الداخلي“ «Internal Branding»، حيث يتم غرس قيم الشركة في الموظفين ليصبحوا سفراء حقيقيين لها. وكما يؤكد كيفين لين كيلر «Kevin Lane Keller» في كتابه ”Strategic Brand Management“، فإن أقوى العلامات هي التي تصل إلى مرحلة ”الرنين“ «Resonance» مع العميل، وهذا لا يحدث إلا إذا كان الوعد الخارجي نابعًا من حقيقة داخلية صلبة.

الكارثة في عالم الشركات تحدث حين يكون هناك انفصال بين الداخل والخارج، وهو ما يدمر الثقة، وهو بالضبط ما حذرت منه زينب حسين في سياق الإنسان.

إسقاط المرآة: حين يُقاس الجوهر بلغة السوق

والآن، لنعد بهذه العدسة إلى الإنسان. فكرة ”البراند الداخلي والخارجي“ للإنسان ليست مجرد استعارة، بل هي حقيقة نفسية وفلسفية عميقة.

• البراند الإنساني الخارجي: هو ما يسميه عالم النفس كارل يونغ «Carl Jung» بـ ”البيرسونا“ «Persona»، وهو القناع الاجتماعي الذي نرتديه لنتفاعل مع العالم. هو سيرتنا الذاتية وسمعتنا، وهو ضروري للحياة، لكن الخطر، كما يحذر يونغ في أعماله مثل ”The Archetypes and the Collective Unconscious“، يكمن في التماهي مع القناع ونسيان الوجه الحقيقي خلفه.

• البراند الإنساني الداخلي: هذا هو ”جوهرنا“؛ نظام قيمنا ومبادئنا الراسخة. وهذا يعيدنا إلى ما أشرنا إليه في سياق سريع في مقال ”الإنسان قبل الهوية: جدلية الظل والجوهر“، حيث أن هذا البراند الداخلي هو بمثابة ”جلد الجوهر الفطري“ الذي يسبق كل التعريفات الخارجية. إنه ما يسميه عالم النفس الإنساني كارل روجرز «Carl Rogers» في كتابه ”On Becoming a Person“ بـ ”الذات الحقيقية“ «The Real Self». يرى روجرز أن السلام النفسي يكمن في تحقيق ”التطابق“ «Congruence» بين هذه ”الذات الحقيقية“ وبين أفعالنا الخارجية. ”تضخيم الصورة الذاتية“ الذي ذكرته زينب، هو حالة من ”عدم التطابق“ الصارخ، حيث يتم تزييف الخارج.

وهنا، يأتي الفيلسوف ليضع التاج على هذا المفهوم. فما هو الهدف من هذا التطابق؟ يجيب أرسطو في كتابه ”الأخلاق إلى نيقوماخوس“ بأن الغاية هي ”اليودايمونيا“ «Eudaimonia»، أو ”الازدهار الإنساني“، الذي لا يتحقق إلا حين يعيش الإنسان بانسجام مع طبيعته الفاضلة. أما الوجودي سورين كيركغور فيرى في ”مرض حتى الموت“ أن أكبر يأس هو ”ألا يكون الإنسان ذاته الحقيقية“.

الخاتمة: الجوهر حين يرفض أن يكون سلعة

نعود إلى سؤال زينب، لنؤكد أن نقدها ليس هدمًا لفكرة ”البراند الداخلي“، بل هو دعوة لإنقاذه من سوء الاستخدام. فالخطر ليس في وجود علامة خارجية، بل في انفصالها عن الحقيقة الداخلية. إنها حالة الانفصام بين ما نؤمن به وما نظهره.

فالغاية إذن ليست صناعة ”براند“ مبهر، بل الكشف عن جوهرٍ مضيء، والسماح لنوره بأن يتجلى بصدق. وهذا بالضبط ما قصدناه حين ختمنا مقال ”فلسفة الهوية: من جوهر ’الأمر’ إلى أثر ’الاختيار’“ بسؤال يختزل كل هذه الرحلة: ”فأي توقيع ستترك على صفحة وجودك؟“. فالبراند الحقيقي ليس سوى ذلك التوقيع الأمين لروحك.

وهنا نأتي بالختام الذي لا يأتي بعده كلام، وهو الكلمة الإلهية التي تفصل بين القول والفعل، بين الظاهر والباطن:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف، 2-3]

خاتمة الخاتمة

وهذا يتركنا أمام سؤال أخير وأكثر حميمية، سؤال لا يُطرح في ضجيج الأسواق، بل في سكون الليل:

حين تنطفئ كل الأضواء وتبقى وحدك، هل سيكون ”براندك“ مرآةً تواجهها بسلام، أم قناعًا تخشى خلعه؟

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
علي صفوان
[ القطيف ]: 6 / 8 / 2025م - 3:46 م
أشعر أن المقال يصلح أن يكون فصلا في كتاب عن “إدارة الذات” لكن بمنظور إنساني روحي لا تجاري صرف.
2
زهراء
6 / 8 / 2025م - 6:04 م
عجبني استشهادك بيونغ وروجرز وأرسطو فالخلطة الفكرية جعلت النص أشبه بمحاضرة رفيعة المستوى لكن بلغة محببة للقارئ
3
حسين آل غزوي
6 / 8 / 2025م - 9:44 م
الربط بين “البرسونا” عند يونغ والهوية التسويقية كان من أجمل أجزاء المقال وكأنه كشف خيوط لعبة نمارسها يوميا بلا وعي.
كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة