اللوز الغالي… واللي اشترى!
ما إن يُعلن أحدهم في ”قروب واتساب الحارة“ عن وصول أول دفعة من ”اللوز السكندري“ — ومعه بقية الألوان والأنواع — حتى تبدأ حالة اقتصادية لا تُشبه أي موسم آخر في القطيف…
ترى عربات اللوز تتمدد على أطراف السوق، ومزادات صغيرة تتناثر بين الأزقة، وإعلانات صوتية تشقّ صمت المساء:
”اللوز يا أهل اللوز… توّه نازل من المزرعة!“
ويبدأ معها همس المجالس:
”بكم صار؟“
”قالوا الكيلو 140!“
”لااا، خالي شراه بـ 150 وقال له البائع: أول الموسم يا حجي!“
نعم… نحن في موسم اللوز القطيفي، أو كما يُسميه البعض:
”موسم الترقّب واللوم… واللوم ليس على اللوز، على الجيب!“
دعني أحكي لك الحكاية من قلب المشهد…
رجلٌ أربعيني، موظف حكومي، اسمه ”أبو زياد“، مصاب بكل ضغوط الحياة إلا ضغط ”الإنفاق الموسمي“ — فهو متواصل طول العام بلا انقطاع.
يمرّ مساءً من أحد الأسواق الشعبية، يضع يده على جيبه تلقائيًا كمن يتحسس جرحًا قديمًا، ثم يسمع أحد الباعة يصرخ بشغف:
”اللوز يا أهل الذكرى… سكندري طازج من أرض المزرعة!“
يتوقّف ”أبو زياد“، يتشمم الهواء كمن التقط رائحة جدّته في القدر، يبتسم…
يتذكّر كيف كانت تغمّسه في الملح وتقول له:
”اللوز أول السنة… ينعش القلب!“
يقترب ويسأل بتردّد:
”بكم الكيلو يا خوك؟“
فيردّ البائع بحماس:
”150 ريال! بس والله يستاهل… لون وطعم وريحة عمر ما تنعاد!“
يضحك ”أبو زياد“، ثم يمد يده، لا على الجيب، بل على نبض ذاكرته، ويقول:
”احسب لي نصّ كيلو… وسجّل: قلب اشترى، مو جيب اشترى!“
وهنا مربط اللوز.
فالناس ما عادت تشتريه من أجل فوائده الغذائية، ولا مقارنةً بأسعار الفواكه المستوردة…
بل تشتريه بنبض الحنين، بطعم الطفولة، بصوت السوق، ودفء المواسم.
اللوز هنا ليس مجرد فاكهة،
بل نداء سنوي يقول لنا: ”أنتم من تراب هذه الأرض… وهذه فاكهتكم.“
لكن حتى لا يُقال إننا نحكي من طرف واحد، دعنا نكون منصفين…
فاللوز القطيفي يُباع اليوم بثلاثة وجوه:
وجه الفلاح، ووجه السوق، ووجه ”الصيّاد المتجوّل“ الذي لا يزرع لكنه يحصد.
وجه الفلاح هو الوجه البسيط المتعب،
ذاك الذي يروي الشجرة بدم قلبه لا بماء الآبار فقط،
فلاح لا يملك دفتر استثمار ولا تطبيقًا يحدّث فيه أسعار السوق، بل يملك قلبًا يقول: ”رزقي اليوم… يا رب.“
يبيع محصوله مبكرًا أحيانًا لا لأنه لا يعرف قيمته، بل لأنه ينتظر علاجًا، أو يسدّ دَينًا، أو يُصلح موتور ماء أعياه الصدأ.
وجه السوق هو العرض والطلب المعتاد،
تقلبات موسمية، يُحددها التوقيت والإقبال لا أكثر.
أما وجه تاجر الموسم، فهو الأدهى.
ذاك الذي لا شجرة له، ولا يسهر، ولا يعرف ما معنى جفاف التربة أو هجمة السوس…
لكنه يوقّع عقدًا مبكرًا مع المزارع البسيط، يشتري المحصول كاملًا بسعر زهيد في بداية الموسم، ثم يُخزّنه، ويبدأ مع ارتفاع الطلب ببيع الكيلو بأربعة أضعاف وربما عشرة…
وعندما يُسأل، يبتسم ويقول:
”تجارة… والتجارة شطارة!“
هذا النوع من التجار لا يُلام لأنه يربح — فالربح حق —
لكنّه يُلام حين يتلحّف بغطاء الفلاح، ويبيع للناس قصةً ليست قصته، بثمن لم يدفعه أصلًا لصاحب الأرض.
يسوّق نفسه كابن التراب، وهو بالكاد ابن الطمع!
تتقلّب مشاعر الناس بين الغضب من الأسعار، والتعاطف مع الفلاح، والدهشة من ذكاء من يستثمر حتى في الحنين.
ويبقى السؤال معلقًا:
هل نلوم الفلاح الذي باع ليعيش؟
أم نعاتب التاجر الذي اقتنص الفرصة؟
أم نحاسب المستهلك الذي يريد الطعم والذاكرة بسعر الموز الإكوادوري؟!
ربما كلّهم محقّون… وربما لا أحد.
لكن الحقيقة الوحيدة أن اللوز لا يكذب،
فمن يزرعه يعرف الفرق بين عرق اليد ودهاء العقل،
وبين من يُغمّسه بالملح… ومن يُغلفه بالذهب!
وهنا تعود إلينا تلك الحكاية القديمة…
”أبناء الفلاح… وأبناء التاجر.“
أبناء الفلاح تعلّموا أن الأرض لا تُعطي قبل أن تُؤتى،
أن الربح لا يُقطف قبل العرق،
وأن من ينتظر الثمر… يستحقه.
أما أبناء التاجر، فتعلّموا أن الصفقة تربح بالكلمة، لا بالكدّ،
وأن التوقيت يسبق التوريد،
وأن ربح اليوم خير من تعب الغد.
ومع تحوّل الزمن واختلاط الأدوار،
صار أبو زياد، وتاجر الموسم، والمزارع البسيط، يجتمعون في ذات السوق…
لكن كلٌّ منهم يمسك اللوز من طرف مختلف:
منهم من يشمّه ليعود إلى ذاته،
ومنهم من يزنه ليبيعه بأكثر،
ومنهم من ينظر إليه ويتمنى… لو أن الكيلو، كلّه له.
فلا تحاكم اللوز بمنطق الكيلو،
ولا تحاكم المزارع بمنطق السوق،
ولا تحكم على السعر دون أن تعرف كم من الوقت انتظر هذا الفلاح ثمرةً واحدة تُنقذ موسمه.
ومضة:
اللوز ليس سلعة موسمية…
إنه حكاية بلد،
وقصة مزارعٍ باع تعبَه… لا ثماره فقط.