كيف نبني وعينا الإداري
لا يخفى على أحد أن الغرب قد سبقنا في إنتاج المعارف والنظريات الإدارية، ويكفي دليلاً على ذلك ما نشهده اليوم من هيمنة واسعة على الساحة الفكرية الإدارية المعاصرة، وتفوّق جامعاته ومراكز أبحاثه في إصدار الأدبيات العلمية التي تُدَّرَس وتُطَبَّق في مختلف أنحاء العالم. فمعظم النظريات الكبرى ك ”الإدارة العلمية لتايلور“ و”البيروقراطية لويبر“ و”النظم والمدارس السلوكية“ و”نظرية الحاجات الإنسانية لإبراهام ماسلو“ و”نظرية العلاقات الإنسانية لبيرنارد كريس“ والنظريات في الإدارة والقيادة الحديثة وغيرها، كلها نشأت في بيئات غربية، واستندت إلى تجارب واقعية في مجتمعاتهم الصناعية والتنظيمية؛ بل أصبحت المرجعية الأساسية التي نعود إليها عند البحث عن حلول لمشكلاتنا الإدارية أو لتطوير بنيتنا المؤسساتية، وهو ما أكدته منظمة اليونسكو في تقريرها لعام 2023 م إلى أن ”90 % من النظريات الإدارية المُدرَّسة في جامعاتنا وُلدت في مختبرات غربية“.
لكن هذا التفوّق ليس دليلاً على النقص في تراثنا أو ثقافتنا الإسلامية، بل هو نتيجة غياب الإرادة الحقيقية للنهوض، وافتقادنا للوعي الإداري الذاتي، كما أشار إليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري: ”مشكلتنا ليست نقص المعرفة، بل نقص الوعي بكيفية توظيفها“. فالإسلام، كمنهج حياة للجميع، لم يقتصر على الجانب الديني فحسب، بل أسس قواعد ونظماً للقيادة والإدارة؛ غير أن هذا التراث ظل مغيباً أو مهملاً بسبب النظرة الضيقة والانبهار المفرط بالنموذج الغربي. لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن لنا أن نتحول من مستهلكين سلبيين إلى فاعلين ومبدعين في الحقل الإداري؟
تُعتبر المعرفة الإدارية مجموعة المعلومات والنظريات والمهارات التي نكتسبها من الكتب والدورات، بينما الوعي الإداري هو قدرة الفرد على استخدام هذه المعرفة بذكاء وتمييز بحيث يتحول من مقلّد إلى مُبدِع، ومن ناقد إلى قادر على تطوير نفسه وبيئته.
المعرفة الإدارية تعني أن تعرف كيف تُدير العمل، وكيف تُنظم المؤسسة، وأن تُحسّن التخطيط واتخاذ القرار بناءً على المعلومات الواضحة والأهداف المحدَّدة، بينما الوعي الإداري يعني أن تُدرك كيف تُلهم الناس وكيف تتعامل بمرونة وإنسانية مع التحديات والمتغيرات لتصنع بيئة عمل نابضة بالثقة والإبداع.
الأرقام والإحصائيات
تُظهر البيانات أن الولايات المتحدة وحدها تصدر سنوياً أكثر من 45 ألف كتاب إداري، وتضم أكثر من 500 مجلة علمية محكّمة في الإدارة، كما يقول التقرير الصادر عن جمعية الناشرين الأمريكيين (AAP)، وهي منظمة تجارية تمثّل كبرى دور النشر في الولايات المتحدة، وتُعنى بالدفاع عن حقوق النشر، والسياسات العامة، وتطوير صناعة النشر الأكاديمي ”التعليمي والتجاري“. فيما لا تتجاوز الإصدارات العلمية الإدارية في العالم العربي 1 % من الإنتاج العالمي، مع أقل من 20 مجلة علمية متخصصة، معظمها محدود التأثير؛ وهي فجوة كبيرة تكشف بوضوح عن ضعف بنيتنا البحثية وقلة الاستفادة الذاتية من المعرفة. ولهذا يقول رائد الإدارة بيتر دراكر: ”أفضل وسيلة للتنبؤ بالمستقبل هي خلقه“. وهذا ما قامت به دول آسيوية مثل اليابان وسنغافورة وغيرها، إذ لم تكتف بالاستيراد كما نفعل نحن في العالم العربي، بل أعادت بناء النماذج الإدارية بما يتناسب مع خصوصياتها الثقافية والاجتماعية، مثل نظام تويوتا للإدارة الرشيقة الذي أصبح نموذجاً يُحتذى به عالمياً.
الحقيقة أن الواقع الإداري في العالم العربي والخليجي يواجه عدة تحديات، ومن أبرزها ضعف ثقافة الأداء المؤسسي وغياب الروح الابتكارية في التعامل مع المشكلات الطارئة، ويُضاف إلى ذلك تفشّي البيروقراطية التي تعيق الإبداع، وانتشار الفساد الذي يعرقل تحقيق الكفاءة والشفافية. وتشير التقديرات إلى أن خسائر العالم العربي الناجمة عن الفساد الإداري - (المحسوبيات والرشاوي وهدر المال العام…) - تصل إلى نحو 157 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، وفق تقارير البنك الدولي.

قال الإمام عليّ مخاطباً مالك الأشتر - رضي الله عنه - حين ولّاه مصر: ”أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكن عليهم كالسبع الضارية التي تغتنم أكلهم؛ إنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، عاملهم بعدل ورحمة، ولا تقف على عثراتهم أو أخطائهم، بل كن لهم قريباً حاضر القلب واليد…“
ولعل من أبرز الأفكار التي يمكن استلهامها من هذه الوثيقة الإدارية العظيمة هي:
1. العدالة بين المدير والموظف: ألا يُفرَّق بين الموظفين في الحقوق سواء أكانوا من المقربين أم من الأعداء.
2. التعامل بالرحمة والإنسانية: تشبيه الرعية بـ ”إخوة في الدين“ أو ”نظراء في الخلق“ - وهو مبدأ إنساني عظيم ومتقدِّم، خاصة وأنه جاء في زمن كان يُنظر فيه للرعية كأدوات بيد الحاكم.
3. الاختيار على أساس الكفاءة والوفاء: اختيار للولاة والموظفين من هم أكفأ وأصدق وأوفى، وليس على أساس القرابة أو الولاء الشخصي—وهو ما يُعرف اليوم بـ ”meritocracy“ أو ”حكم الجدارة“.
4. الرقابة الإدارية المستمرة: ”ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم“ - وهو ما يُعرف في الحوكمة المعاصرة بالشفافية والمساءلة.
ومن وجهة نظري، لو طُبِّقت هذه المبادئ في مؤسساتنا وشركاتنا اليوم، فإننا سنشهد إدارة قائمة على الكفاءة لا على المحسوبيات، وعلى المؤهلات لا على العلاقات الشخصية؛ بل وانخفاضاً واضحاً في معدلات الفساد المالي والإداري، وزيادة في ثقة الموظفين بالإدارة والقيادة، وتحسناً ملحوظاً في جودة تقديم الخدمات العامة؛ كما سينعكس ذلك إيجابياً على بيئة العمل، والأداء، والإنتاجية.
• تجربة الدكتور إبراهيم عبد الله المنيف - رحمه الله: عندما طلب منه قسم إدارة الأعمال بكلية العلوم الإدارية قبل نحو عشرين عاماً تدريس مادة متخصصة للطلبة، اشترط أن يكون له كامل الصلاحيات في اختيار المنهج والنهج. فطبّق أسلوبًا فريداً: لا مقررات أو امتحانات، بل إجابات أسبوعية صفحة واحدة فقط بالرجوع إلى المراجع. وقد أفضت التجربة إلى تحقيق نجاح كبير، وأصبحت مجموعة من هؤلاء الطلبة يتبوأون اليوم مناصب إدارية مرموقة في القطاعين العام والخاص.
• سابك السعودية: دمجت بين نظرية ”الإدارة بالأهداف“ الغربية ومبادئ الشورى الإسلامية، مما جعلها تحتل المركز السابع عالميًا في صناعة البتروكيماويات، مع تحقيق معدل رضا الموظفين يتجاوز 85 % (تقرير الاستدامة 2023).
• بنك القاهرة المتحد المصري: طبق نموذج ”الرقابة الذاتية“ المستوحى من وصية الإمام عليّ ، فانخفضت الأخطاء الإدارية بنسبة 40 % خلال 3 سنوات، وحصد جائزة أفضل بيئة عمل عربية عام 2022.
• مشروع مدينة دبي الذكية: نجح في توطين نموذج ”المدينة الرقمية“ الغربي مع دمجه بقيم الكفاءة العربية، لتصبح الأسرع نموّاً في جذب الاستثمارات التكنولوجية عالميًا (مؤشر كيرني 2023).
في كثير من مؤسساتنا تُتَّخذ القرارات لأن ”هذا هو المعتاد“ - نماذج جاهزة، أساليب مستوردة، نظم إدارة مكرّرة، كأنها وصفة لا تُناقش. التقليد الإداري مريح، لكنه يقتل الإبداع ويعيق التطوير.
في المقابل، هناك مؤسسات ومديرون امتلكوا وعيًا ذاتياً عميقاً، لم يبدأ برفع الكتب، بل بقراءة الواقع بعيون ناقدة وأسئلة صادقة؛ فصنعوا حلولهم الخاصة. وهذا هو الفرق الجوهري بين التقليد والذاتية، بين من يكرر ومن يبتكر.
1. أفهم الواقع قبل أن تغيّره: الوعي لا يبدأ بالإصلاح، بل بالتشخيص. الإداري الواعي لا يكتفي بالانطباع أو الشكوى، بل يُخضع الواقع للقراءة الدقيقة عبر البيانات والملاحظات والتحليل، والاستماع لأصحاب العلاقة.
2. اسأل… لتفهم: المدير الواعي لا يخشى أن يقول ”لا أعلم“، بل يقول ”دعونا نبحث“. الأسئلة ليست شكاً في الأداء، بل طريقاً لتصحيحه.
3. لا تنسخ نموذجاً، بل صمّم ما يُشبهك: ليس كل نموذج إداري عالمي يصلح كما هو؛ لكل نموذج غايتهُ وسياقه. بعض النماذج موجهة للأفراد مثل GROW, وبعضها للمؤسسات مثل SWOT, وهناك أدوات مثل ”Wheel of Life“. المدير الواعي يُكيّف النماذج وفق خصوصية مؤسسته وبيئته.
4. حوّل الفشل إلى مختبر تعلم: الفشل ليس عيباً بل فرصة للتعلم. في كثير من البيئات يُعالج الخطأ كأنه جريمة، ويُبحث عن ”المذنب“ بدلاً من ”السبب“، بينما في البيئات الواعية يُنظر إلى الخطأ كفرصة للتحسّن. وفق دراسة Harvard Business Review, المؤسسات التي تبنّت ”ثقافة التعلُّم من الفشل“ تحسّنت كفاءتها التشغيلية بنسبة 23 % خلال عامين مقارنة بمثيلاتها التي لا تحتفي بالفشل كأداة تعلم.
لقد حان الوقت للتحرر من قيود التقليد والإفراط في الاستيراد السطحي. طريق الإدارة العربية الفاعلة والمبتكرة يبدأ من الوعي، كما أكد د. طارق السويدان: ”الوعي هو بداية التغيير الحقيقي، ومن دونه لن نتقدّم“.
والعودة إلى تراثنا الإسلامي الأصيل، ممثلاً في حكمة الإمام عليّ إلى مالك الأشتر، تُظهر أن لدينا من الأدوات الفكرية والإدارية العظيمة ما يمكننا البناء عليه؛ وأن القائد الواعي هو من يصنع الفرق الحقيقي. فهل سنكون نحنُ القادة والروّاد الذين يعيدون لثقافتنا مكانتها، ويضعونها على خريطة الإدارة العالمية؟