مدارس.. طموح …فُرص … ثقافة حياة (1)
نفخر بأغلب شباب مجتمعنا ووطننا لما حققوه من نجاحات في العالم التقني والأكاديمي والتجاري والعلمي والمهني. وفي ذات الوقت نقيم موضوعيًّا الفجوة القائمة لدى البعض الآخر من شباب المجتمع، آمِلين أن يستنطق الآخرين سُبلاً للنجاح، وتُعمّم نماذجه، ويتفادى شباب المستقبل إخفاقات النماذج غير الناجحة. لا عجب أن كان بعض الشباب والفتيات في مطلع عمر العشرينات لا يعرفون كيف يتصرفون بحكمة وثقة وفطنة وكياسة ورزانة واستقلاليّة إن وقع أيٌّ منهم في معضلة ما تتطلب التفاعل الإيجابي والشجاعة، مثل إدارة شؤون حادث سيارة كان يقودها، أو التصرف الأنجه عند إضاعة الطريق في مدينة كان يزورها، أو التصرف الأفضل إذا سُرق جواله/محفظته/جوازه أثناء سفره، أو تعرض لابتزاز مالي من أي شخص في العالم الواقعي أو العالم الرقمي، أو تم إلغاء عقد عمله دون مسوغ قانوني/مهني/أدبي معتبر، أو تم إلغاء ترشيحه في سباق وظيفي دون أي مبرّر … أو … الخ. فتنطوي الأيام وتضيع على الجيل الصاعد الفرص، ويختنق الطموح لديهم، ويضمر الأمل، ويزداد منسوب الشعور بالإحباط والقهر والغبن، ويتوارون عن الأنظار، ويكثر تعداد الانطوائيين. قبل إطلاق رشقات الاتهام سواء نحو الشباب أو أوليائهم أو المجتمع أو مخرجات التعليم أو البيئة، دعونا نتدارس الأمر برمّته.
دعنا نعمل flashback لحياة ذلك الشباب/تلك الفتيات في بناءهم النفسي الهش، الذي بدأ من مرحلة الدراسة في الثانوية العامة وسنوات الجامعة الأولى. في مرحلة الدراسة بالثانوية العامة، يُوجَّه الطالب من قِبَل أهله وبيئته لتكريس كامل وقتِه للدراسة، وكان وما يزال أغلبُ الطلاب في المجتمعات المدنية منغمسًا في التحضير لاجتياز الاختبارات التالية:
• تُوفل / إيلتس / ستيب
• القدرات
• التحصيلي
• الاختبارات الشهرية
• الدراسة العامة
• بناء المجموع التراكُمي للشهادة الثانوية
وبعد ذلك، إن وُجد لدى الطالب المجد وفائض من الوقت، قد يمارس هواية معينة كالسباحة أو الجري، أو يشاهد برامج ترفيهية بسيطة، أو يخرج مع بعض زملائه بالمدرسة، أو يلعب بالألعاب الإلكترونية، أو يتحاور مع chatGPT. ومعنى ذلك أن الأنشطة غير المنهجية شبه منعدمة في جدولِه وتكوينه الفكري وصقله المعرفي؛ والمبادرات في قاموس البعض من الطلاب غير متعارَف عليها البتّة؛ والحوارات الفكرية العامةِ الناهضة بالوعي شبه ممسوحة من فضائه.
حاليًا يستشعر بعض أولياء الأمور أن المدرسة أصبحت ذات وزن نوعي منخفض جدًا في تحديد مسار مستقبل الأبناء عند التسجيل الجامعي أو الانتقال نحو الحياة الأكاديمية. فالطالب من بداية دخوله المرحلة الثانوية يكون الهاجس الأول له ولأوليائه هو: كيف يحصل على أعلى نسبة في اختبار القدرات واختبار التحصيلي، اللذين لهما نصيب الأسد في ترجيح النسبة الموزونة لدى لجان القبول بالجامعات المحلية؛ وكذلك اجتياز اختبار ستيب/تُوفل/إيلتس للغة الإنجليزية، الذي يعد اجتيازه شرطًا رئيسًا للدخول في بعض التخصصات عند الجامعات المحلية أو للترشيح لبرامج بعض الشركات الدولية والمحلية الكبرى. بينما قيمة النسبة الموزونة للمرحلة الدراسية الثانوية تتراوح من 10% إلى 30% حسب الجامعة المراد الالتحاق بها محليًّا. وهنا يثير بعض الآباء تساؤلًا: هل قيمة ثلاث سنوات دراسية مضنية في المرحلة الثانوية مع الحضور والمواظبة لا تتعدى تلك النسب المنخفضة في النسبة الموزونة؟
وبالتالي، يستشعر بعض الطلاب وبعض أولياء أمورهم أن المدرسة للمرحلة الثانوية العامة فقدت أهميتها النوعية وبريقها لديهم. وقد يقول أحدهم إن هذه قراءة منقوصة، ولكن القراءة الأولى في ذهن بعض الطلاب، وموضوعيًّا هكذا يُرصد. وعليه نسمع ونقرأ عن تقلّص نسب التركيز للمدرسة والدراسة المقررة عند بعض الطلاب! وما قد يزيد الطين بله هو تزايد استخدام الطلاب لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في إعداد الحلول للواجبات المدرسية والتقارير العلمية طمعًا في توفير وقت أكبر لاختبارات التحصيلي والقدرات والتوفل!
لا ريب أن بعض الطلبة والطالبات أضحى هوسهم استحصال درجات عالية في اختبارات القدرات والتحصيلي والإيلتس، وأخواتُهم هم الهم الأكبر لإحراز مقعد مبتعَث أو لقب ”الأول على الدفعة للمرحلة الفلانية“، أو التفاخر بشيء من ذلك. وفي الواقع، إن البعض لديه نَهَمٌ في الحفظ، لكنه أجوف في الفهم وإدارة شؤون حياته وتوظيف المحتوى العلمي الذي حفظه. وهو بكله ثقل على والدَيه ومجتمعه! حتى إن استحصل على شهادة دكتوراه وعلّق عدة أوسمة أكاديمية!!
فلا تستغرب أن تجد رجلًا/امرأة في مقتبل عمره ويحمل لقبًا أكاديميًّا كبيرًا، وفي ذات الوقت يسيطر على دماغه بيْعًا وشراءً وإدارةً شابٌّ آخر أقل درجةً أكاديمية إلا أنَّ ذلك الثاني يجيد إدارة أمور البيع والإقناع والتفاوض وإدارة شؤون الحياة وفنون اتخاذ القرارات. وقيل قديمًا: ”العلم بالرأس وليس بالكراس“. نشجّع أن يتقدّم كل الأبناء والبنات لاستحصال شهادات مهنية محلية ودولية، وفي ذات الوقت نشجّعهم على ترجمة تلك المعارف العلمية والمهنية، المفعمة بالثقة والجرأة، إلى الأقدام والتفوق والتمكّن في ميادين العمل وحقول التطبيق.
وجود محتوى إدارة شؤون الحياة بشكل ضئيل جدًّا في أدمغة بعض الشباب، سواء المجتهدين (المجتهدون) أو المستهترين، جعلهم لعبة وأضحوكة في أيدي البعض في العالم الواقعي والعالم الرقمي. وهنا المسؤولية التربوية أصبحت مضاعفة على الوالدين الأوفياء والخُبراء الفكريين وأصحاب المنابر، لملء الفراغ العملي في حياة الأبناء المنغمسين بهوس النياشين الأكاديمية أو بالعالم الافتراضي أو التفاهة أو بالشهوات أو الدراسة المحدودة الأفق. فما بين سباق الأغلب من الطلاب والطالبات على حفظ محتوى بعض المناهج الدراسية، والتفنّن في اكتساب أعلى الدرجات وتخطي سباق المقاعد المحدودة في التخصصات المطلوبة بالجامعات المرموقة، تتضاعف المسافة بينهم وبين شؤون إجادة إدارة شؤون الحياة. فيصبح المجتمع أو بعض بؤره ناشرًا حملة الشهادات الأكاديمية، لكنه أجوف من إدارة شؤون الحياة. فلا عجب أن نرى مستوى نجاح الحياة الاجتماعية والأسرية بين صفوف أبناء الجيل الماضي، مع قلة حملة الشهادات الأكاديمية الذين تفوّقوا على أبناء الأجيال التي أتت بعدها، والمحرّزين على نسب أعلى في الشهادات الأكاديمية.
هل قمت بإهداء أو إرشاد ابنك/ابنتك نحو قراءة كتب تصقِل فكرَه وتقوّي نفسه، وتعدّه من خلالها للحياة؟ الجواب يتضمّن: نعم أو لا أو نعم ولكن…!
نعم، أهدَيتُه الكتب التالية:
• أصول البحث - لمؤلفة: شيخ عبد الهادي الفضلي
• الدين والفلسفة - مطهري
• العدل الإلهي - مطهري
• الإسلام ومتطلبات العصر - لمؤلف: مطهري
• المرسل.. الرسول.. الرسالة - لمؤلّفه: الصدر
• بحث حول الإمام المهدي - الصدر
• فقه الأخلاق - الصدر الثاني
• الكاشف - شيخ محمد جواد مغنية
• النباهة والاستحمار - شريعتي
• الأب الفقير والأب الغني - لـ روبرت كيوساكي
• العادات الذرية (Atomic Habits)
• قوة الآن (The Power of Now)
• القوة الناعمة
• التفكير السريع والتفكير البطيء
• رواية 1984 م
ولكن لم نُناقش بالقدر الذي فهمه ومارسه في حياته؛ لضمان صقل فكره وقوة همّته وحسن بصيرته وجميل تقوّاه ومخالفة هواه.
نعم، يسعى كل الآباء ويشجّعون أولادهم وبناتهم على إحراز أفضل الشهادات واقتناص أفضل الوظائف، وفي ذات الوقت يساهمون في نجاحهم في الدار الآخرة وصقلهم لحب الله والدين والوطن والمجتمع والخير والوفاء لهم. الجرعة الثقافية والتوعوية والإرشادية والتحصينية والإيمانية والفكرية تبدأ وتنتهي من البيت والأسرة الكبيرة والحي وداخل المجتمع. دور المدارس، لا سيما العالمية والأهلية، في أغلب الأحيان يركز نحو استحصال أكبر قدر من الدرجات الدراسية، ولا يُسهم في إعداد الشباب والفتيات من الطلبة والطالبات للحياة الواقعية بناءً على المتغيّرات والمستجدّات المتسارعة والفضاء الرقمي المفتوح. فالبعض من الشباب هشٌّ وينكسر عند أول صدمة أو عقبة أو إشكال أو شبهة عقديّة، والواقع يتطلب الحكمة والجلد والصبر والنفس الطويل والمثابرة واقتناص الفرص لتجذير روح الإيمان والطهارة والعفاف والنجاح.