آخر تحديث: 26 / 8 / 2025م - 11:56 م

لو يدري عيسوه…!

عماد آل عبيدان

لو دَرَى ”عيسوه“، ما شقّق ثيابه، ولا خلّى سالفته في الشوارع.

لكن ”عيسوه“ ما يدري.

و”اللي ما يدري“ يرتاح ويصدق اللي يشوفه هو، لا ما هو عليه صدق.

هناك جارتهم ”أم حسان“ امرأة فاضلة، بلسانٍ حاد، وعينٍ ترى ما خلف الجدران. لم تكن تتدخل في شؤون الناس — كما زعمت — بل كانت تعتبر نفسها ”مرآة الفريق“، تعكس ما يفعله الجميع… حتى لو لم يطلب أحدٌ منها هذا الدور.

في أحد الأيام، ارتفع صوتها وهي تحدّث جارتها:

”شفتوا كيف صار حاله بعد ما طلّق بنت خاله؟! حرام، والله مو وجه نعمة، هذا واحد مو مبين عليه إنه متحسف ولا ندمان! هذا وجه طرب وسفر وهياته… عاد لو تدري المسكينة عفاف، تشقّق ثيابها!“

وهنا دخل على الخطّ جارنا الجديد ”علّام“، رجلٌ طيّب لا يحب المشاكل، لكنه قرر أن ”يتفلسف“ — لأول مرة — وردّ ضاحكًا:

”بس يا أم حسان، يمكن الرجال مبسوط، يمكن الزواج ما نفع معاه، ويمكن لو تدري عفاف بالأسباب، تشيل صورته من الإطار وتقول: الحمد لله اللي فكّني منه!“

رفعت أم حسان حاجبها، وقالت بوقارٍ لا يخلو من إنذار:

”أنا ما أقول إلا اللي أشوفه… والعين ما تكذب!“

مرت أيام، وإذا بخبر جديد يهزّ الفريق: ”عفاف“ — التي شقّت ثيابها ظنًّا — تزوّجت طبيبًا في بلدة أخرى، وتحوّلت صورها في ”الواتساب“ إلى ورد، ومشاوير، وابتسامات نصف مغلقة.

عندها صرخت أم حسان من قلبها:

”لو يدري عيسوه… ما طلّقها!“

ضحك الجميع، وضحك ”علّام“ أكثر، وقال:

”ولو تدري عفاف… كانت أول من زفّ ليه التبريكات!“

هكذا نحن… لا نكاد نفرّق بين الحقيقة والوهم، نحكم على صور ”البروفايل“ لا على الأرواح، وعلى الوجوه التي نراها لا على الهموم التي نخفيها.

كم من ”عيسوه“ في حياتنا يشقّ قميصه على وهم؟

وكم منّا ظنّ نفسه القاضي والشاهد والمحامي، فوزّع التهم جزافًا، ثم تبيّن أن كل ما رآه… لم يكن سوى شاشة مكسورة، وانعكاسًا مغشوشًا؟

لو عرفنا ما في القلوب، لما عبثنا بالتأويلات.

ولو سكتنا قليلًا، لنبتَ في داخلنا شيءٌ اسمه: الإنصاف.

ولأن القصص التي تُروى في البلدات لا تندثر بسهولة ولا تُنسى، صار كل من سمع سالفة ”أم حسان“ و”عفاف“ و”عيسوه“ يردد إذا سمع حكمًا من نصف جملة، أو غمزة من طرف مجلس:

”لو يدري عيسوه… شقق ثيابه على الفاضي!“

لكن الأجمل… حين ندري نحن، فلا نُمزّق أحدًا بتعليق، ولا نُقصي إنسانًا بظن، ولا نحكم إلا بعد أن نغسل أعيننا من الغشاوة، ونغسل قلوبنا من التشفّي.

فالحياة لا تحتمل ”شقوقًا“ إضافية… لا في الثياب، ولا في النوايا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 8
1
أحمد نصرالله
[ القطيف ]: 4 / 8 / 2025م - 1:03 م
أسلوب ساخر جميل وذكي في ذات الوقت خصوصا استخدام بيئة الحي والشخصيات الشعبية وإسقاطها على واقع عام نعيشه جميعا.
2
سعاد
4 / 8 / 2025م - 4:40 م
ما توقعت أن حكاية بسيطة مثل سالفة عيسوه توصلني لهالكم من التساؤلات عن نفسي وتعليقاتي على غيري! الله يساعدنا على انفسنا
3
إبراهيم حماد
4 / 8 / 2025م - 6:52 م
أسلوبك خفيف دم لكنه عميق. وعبارة “الحياة لا تحتمل شقوقا إضافية” تختصر المقال كله. سلم قلمك أستاذ عماد ننتظر جديدك وموفق لكل خير.
4
علي المهنا
4 / 8 / 2025م - 9:04 م
مقال بديع. استمر يا أستاذ عماد قلمك له روح
5
عماد آل عبيدان
5 / 8 / 2025م - 2:58 م
الأستاذ أحمد نصرالله،
شكرًا لقراءتك التي لا تكتفي بالسطح، بل تلتقط من بين جدران “الحيّ” ما يشبهنا جميعًا… وكأن “عيسوه” خرج من بيننا، لا من بين السطور.
سعدت برؤيتك الدقيقة، فالبيئة قد تكون محليّة… لكن الحكاية “ساكنة فينا كلنا”.
تقديري لك ولمرآتك التي ترى أبعد من ظاهر الحرف .
6
عماد آل عبيدان
5 / 8 / 2025م - 3:00 م
الأخت الفاضلة سعاد،
هو هذا تمامًا ما نُريده من “عيسوه”… ما يكون قصة عن غيرنا بس، بل مراية نطالع فيها أنفسنا ونبتسم، مرة منّا… ومرة علينا.
التساؤلات اللي وُلدت من النص، هي أجمل ما يتركه الكاتب خلفه.
الله يعيننا على أنفسنا فعلًا… ويعيننا بعد على “اللي يحكمون من نُصّ سالفة”!
ممتن لحضورك الهادئ الصادق.
7
عماد آل عبيدان
5 / 8 / 2025م - 3:01 م
الأستاذ إبراهيم حماد،
كلماتك بلسم لحروف تتعثر أحيانًا بين الجدّ والهزل، فتجيء قراءتك خفيفة مثل تعليقك… لكنها تلتقط العمق كما يُلتقط المعنى من النظرة الأولى.
“الحياة لا تحتمل شقوقًا إضافية”… وأنت بلطافتك أضأت بها موضع الوجع في المقال.
شكرًا لمرورك الجميل، وسُعدت كثيرًا بكلماتك الراقية.
8
عماد آل عبيدان
5 / 8 / 2025م - 3:02 م
الأستاذ علي المهنا،
شكرًا من القلب على كلماتك النقية… وما دام القلم له روح، فأنتم نَفَسُها.
يسعدني أن أكتب لأرواح تقرأ بهذا الصفاء.
تقديري وامتناني الكبير لمرورك الكريم وتشجيعك النبيل.