آخر تحديث: 16 / 8 / 2025م - 10:29 م

الضربة الاستباقية

ياسر بوصالح

يتردّد مصطلح الضربة الاستباقية بكثرة في النشرات الإخبارية، ويُقصد به عسكريًا مبادرة دولةً ما إلى شنّ هجوم على عدوّ متوقَّع، بهدف إحباط خطّته أو تقليص أثرها المحتمل قبل وقوعها. ويُدرج هذا النوع من العمليات ضمن ما يُعرف بـ الدفاع الوقائي، حيث يتم التحرّك بناءً على معلومات مؤكّدة تشير إلى قرب وقوع تهديد فعلي.

أما في إطار ما يُسمّى الحرب الوقائية، فإن ”الضربة الاستباقية“ تتّخذ شكلًا أكثر احترازًا، إذ تُوظَّف لردع خطرٍ محتمل في المستقبل، أو للحيلولة دون تحوّل استراتيجي قد يُخلّ بتوازن القوى، حتى وإن غابت الأدلة القطعية على نوايا هجومية وشيكة.

وبعيدًا عن الجبهات والمعارك وصُداعِها، يمكن استدعاء هذا المفهوم في تفاصيلنا اليومية. فمثلًا، كثيرٌ منا، دون تأمل، يباشرون تناول الإفطار فور الاستيقاظ، رغم أن الجوع قد لا يكون حاضرًا فعلًا. يتحوّل هذا الإفطار إلى ”ضربة استباقية لكن سلبية“ ضد جوعٍ متخيَّل، مدفوعةً بعادة اجتماعية أكثر منها حاجة بيولوجية.

بل ويتردّد على ألسنة البعض قولهم ”إفطار الملوك، غذاء الأمراء، عشاء الفقراء“، وكأنه نصٌّ منزَّل لا يقبل المراجعة، في حين أن التوازن الغذائي لا يُبنى على الأمثال المتوارثة، بل على استجابة واعية لحاجة الجسد. وقد أرسى النبي الأعظم ﷺ قاعدة ذهبية تلخّص هذه الفلسفة الغذائية بدقة ووعي «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع [1]  فالجوع هو الإشارة الباطنية التي ينبغي أن تُطلق ”الضربة الاستباقية“، لا أن يكون الفعل انعكاسًا تلقائيًا، منفصلًا عن الحاجة الفعلية.

ومن عالم الموائد إلى عالم الاجتماع، نجد مثالا اخر من التراث الروائي عن الإمام الصادق «اصنع المعروف إلى من هو أهله، وإلى من ليس أهله؛ فإن أصبت أهله فهو أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله» [2]  وجمال هذه الرواية يكمن في دعوتها إلى ضربة استباقية أخلاقية نشر الخير دون تقييده بمقياس الاستحقاق، إذ إن المشروطية تُعطّل المبادرة، وتُخضع الكرم لفخاخ المصلحة. ومن يدري، لعلّنا لسنا مؤهّلين أصلًا لتحديد من هو المؤهَّل للخير ومن ليس كذلك؟!.

ومن عالم الاجتماع إلى الدائرة الأوسع، والأعمق أثرًا… دائرة العلاقة مع رب العالمين، نجد ضربةً أخرى لكنها من جنسٍ مغاير. يقول تعالى

﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [3]  الإنسان هنا لا يضرب استباقًا، بل يُطلق استغاثةً اضطرارية، دعاءً لا يصدر عن إيمان راسخ، بل عن ردّ فعل عابر. وحين تنقشع الغمّة، يمرّ وكأن الدعاء لم يكن، وكأن التجربة لم تترك أثرًا.

في المقابل، يوجّهنا التراث إلى الضربة الاستباقية الأصدق، إذ ورد عنه ﷺ «تعرّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة» [4]  وقال الامام الصادق ع» إذا أراد أحدكم أن يُستجاب له في الشدة، فليدعُ في الرخاء» [5] 

فالضربة الاستباقية الحقيقية هي بناء العلاقة مع الله في زمن الراحة، لا انتظار ساعة الانقطاع والتخبط. لأن الله سبحانه يعاملنا بلطفه الدائم، لا بعدله المطلق، وإلا لما بقي على ظهرها من دابة [6] .

وختامًا أقول، من الجميل ألا نمرّ على أي مصطلح مرور الكرام، بل أن نمارس عليه الانزياح المعنوي، نستثمره رمزيًا، ونُطلق لعقولنا عنان التأمل. فاللغة ليست فقط وسيلة إبلاغ، بل جسورٌ بين المفاهيم والذات.

فهل نستطيع اليوم أن نرصد في حياتنا ”ضربات استباقية“ نخوضها دون وعي؟ وهل سنُعيد تعريف شروطها، لنجعلها خطواتٍ نحو وعيٍ أعمق، أم سنتركها ردود أفعالٍ تكرِّس العفوية؟

[1]  https://binbaz.org.sa/fatwas/835/الحكم-على-حديث-نحن-قوم-لا-ناكل-حتى-نجوع

[2]  وسائل الشيعة، ج 16، باب ”فعل المعروف“، الحديث رقم [21582]

[3]  سورة يونس، الآية رقم 12

[4]  رواه الترمذي «رقم 2516»

[5]  الكافي، ج 2، باب الدعاء، الحديث رقم 2

[6]  إشارة إلى الاية الكريمة ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ آللَّهُ آلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَا?بَّة? وَلَكِن يُؤَخِّرُهُم? إِلَى? أَجَل? مُّسَمّ?ى فَإِذَا جَا?ءَ أَجَلُهُم? فَإِنَّ آللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا سورة فاطر 45
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
فاطمة العبدالله
4 / 8 / 2025م - 1:18 م
حبيت ربطك بين الضربة الاستباقية في الحياة اليومية وعلاقتنا مع الله. نحن بحاجة إلى أن نكون أكثر وعيا في تصرفاتنا. هل يمكن أن نعتبر أن الدعاء في الرخاء هو ضربة استباقية ضد الشدائد؟
2
سلمان العلي
4 / 8 / 2025م - 4:26 م
المقال يطرح فكرة جديدة حول الضربة الاستباقية لكنني أرى أن بعض الأمثلة قد تكون مبسطة. هل فعلا يمكن مقارنة الإفطار بجوانب عميقة مثل العلاقة مع الله؟ أعتقد أن هناك فرقا كبيرا بين العادات اليومية والقيم الروحية.