العلّامة الدكتور عبد الهادي الفضلي… العالم الموسوعي
في الزمن الذي بدأت فيه المسافات تتسع بين مناهج الحوزة وأساليب الجامعات، وبين الخطاب التراثي والواقع المعاصر، برزت شخصيات نادرة حاولت أن تبني الجسور بين العوالم المتباعدة. ومن بين هذه القلّة المضيئة، تفرّد العلّامة الدكتور عبد الهادي الفضلي «رحمه الله» بمكانة علمية وإنسانية خاصة، جعلته من الروّاد الذين لم يكتفوا بالمزج بين المسارين، بل أرسوا نموذجًا معرفيًا جديدًا جمع بين العمق الشرعي والمنهج العلمي الأكاديمي الرصين.
وُلد الدكتور عبد الهادي الفضلي عام 1354 هـ «1935 م» في قرية الهُجَيْرة بالأحساء، في بيت علمٍ وفقهٍ ودين. والده الشيخ علي الفضلي كان أحد وجهاء العلم والدعوة في المنطقة، وقد تأثر به الابن مبكرًا، وتشرب من بيئته معاني الالتزام والجدية، وهو ما شكّل له أساسًا تربويًا متينًا، جعله لا يرضى بالقليل من العلم، ولا يقف عند حدود المألوف.
كان ارتحاله إلى النجف الأشرف حدثًا محوريًا في مسيرته. هناك، في أروقة الحوزة العلمية العريقة، تلقى دروسه على يد كبار مراجع العصر، مثل آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محسن الحكيم، والشيخ محمد رضا المظفر، وغيرهم.
كان الفضلي شغوفًا بالمنطق والفلسفة وأصول الفقه والبلاغة، وقد عُرف بحدة الذكاء، وسرعة الالتقاط، وغزارة الحفظ. لكنه أيضًا تميّز بنظرته التجديدية، فلم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل ناقدًا ومحللًا، باحثًا عن التجديد من داخل المنهج لا من خارجه.
وقد بلغ مرتبة الاجتهاد في سن مبكرة، لكن ما ميّز مسيرته في النجف لم يكن التحصيل فقط، بل قدرته على الفهم المقارن بين المناهج الحوزوية الصارمة، وبدايات التوجه العقلي المنهجي الحديث، ما مهّده لاحقًا للجمع بين المرجعية التراثية والفكر الحديث.
عاد إلى المملكة، حاملاً إرث الحوزة ووعيًا كبيرًا بحاجة المجتمع للتعليم المنهجي. انضم إلى جامعة الملك عبد العزيز، وتحديدًا في فرعها بالمدينة المنورة، حيث درّس اللغة العربية وعلومها، وأدخل إلى قاعات الدراسة الجامعية روحية الحوزة دون أن يُقحم التعقيد، بل بسلاسة العالم الراسخ.
لم يكن مجرد أستاذٍ جامعي، بل مربٍ ومُوجه، عرف كيف يُبسط المعاني العميقة، ويعيد تقديم علوم اللغة والمنطق والبلاغة بطريقة علمية تلائم العصر دون أن تفقد جذورها الأصيلة. أحبه طلابه، واحترمه أساتذة الجامعات، وكان مثالًا للعالم الذي يفرض احترامه بسلوكه، لا بشهاداته.
ترك الدكتور الفضلي تراثًا علميًا متنوعًا، ومن أبرز ما يُذكر:
• خلاصة المنطق: كتاب تعليمي لا يزال يُدرّس في كثير من الحوزات والجامعات، لجمعه بين العمق والوضوح.
• أصول البحث العلمي: من أوائل المحاولات الناجحة في تأصيل منهجية البحث لدى طلاب العلوم الشرعية.
• مدخل إلى أصول الفقه: محاولة لعرض علم الأصول بلغة منهجية حديثة.
• الموجز في قواعد اللغة العربية: أحد الكتب التعليمية المعتمدة.
ما يميّز كتاباته أنه لم يكن يكتب من برجٍ عاجي، بل يكتب بروح العالم الذي يعيش قضايا طلابه، ويشعر بحاجة القارئ المعاصر إلى لغة سهلة، ومضمون عميق، ومصادر موثوقة.
لم يكن الشيخ الفضلي من هواة الأضواء أو المناصب، لكنه مع ذلك كان يُستشار من قبل كبار الشخصيات العلمية والاجتماعية، داخل المملكة وخارجها. وكان له حضور فكري مؤثر في الندوات، والمؤتمرات، واللقاءات الثقافية، خاصة في فترات التحولات الفكرية التي شهدها الخليج العربي في القرن العشرين.
ومع أن فضله في المجال الحوزوي لا يُنكر، فإن كثيرًا من المثقفين عرفوه من خلال دروسه الجامعية، وكتاباته التي أعادت ترتيب العلاقة بين الفكر الديني والمعرفة الحديثة. كان من الذين لا يرون تعارضًا بين الإيمان والعقل، بل كان يرى العقل أحد الطرق إلى تعميق الإيمان، لا تفكيكه.
في حياته اليومية، كان الشيخ الفضلي بسيطًا، قريبًا من الناس، لا يتعالى بعلمه، ولا يتحدث بلغة النخبة. كان يُشارك الناس أفراحهم وأتراحهم، يقف في المواقف الاجتماعية موقفًا نبيلاً، يوازن فيه بين الحكمة والحق.
وفي فترات التوتر أو الأزمات، كان صوته صوت تهدئة لا إثارة، وصوت إصلاح لا تأجيج، وهو ما جعله محل احترام عند مختلف الأطياف.
في حياة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي «رحمه الله»، تتجسد ملامح مدرسة فكرية وروحية متكاملة. هو ابن الحوزة الذي لم ينسَ منطلقاته، وأستاذ الجامعة الذي لم يتعالَ على من حوله، والمثقف الرسالي الذي بقي وفيًا لقضايا أمته، والعالِم الموسوعي الذي لم ينفصل عن الناس.
لقد رحل جسده في عام 1434 هـ، لكن أثره لا يزال حيًا، في مكتباتنا، وفي مناهجنا، وفي نفوسنا التي اشتاقت إلى علماء يربطون العلم بالمسؤولية، والمعرفة بالإنسان.
وفي زمن كثُر فيه المتكلمون وقلّ فيه العاملون، يبقى الشيخ عبد الهادي الفضلي مناراتٍ من نور، تنير الدرب لكل من يريد أن يجمع بين العقل والروح، وبين الأصالة والتجديد