آخر تحديث: 1 / 8 / 2025م - 11:14 م

ثقافةٌ مُخادِعةُ وواقعٌ مُزيَّف

محمد الحميدي

تمتدحُ الثقافةُ السكوتَ وتُعلي من شأنِه أكثرَ من الكَلام، فكثيراً ما يستشهدُ بالمأثورِ: ”إذَا كانَ الكلامُ من فضَّة فإنَّ السُّكوت من ذهَب“، رُغم أنَّه يُشير إلى حَالات خاصَّة ومحدَّدة يكُون فيها المسكُوت عنه خَير من المُتكلَّم فيه، لكنَّ الثَّقافة بطبيعَتِها تعشَق التوسُّع وتعمِيم القلِيل وتطبِيق القاعِدة على الجمِيع؛ لذَا جعلَته شاملاً بدُون تخصِيص وتحدِيد؛ ما يُشير إلى مشكِلة ”الازدِوَاج“ بداخِلها، التي امتدَّ تأثيرُها ليَشمل التَّكوين الفِكري والعّقلي لأبنائِها، حَيث تحوَّلت المقُولات إلى مسلَّمات وبديهيَّات.

ثقافةٌ مُخادِعة

ينتمِي الإنسانُ إلى بيئةٍ تخضعُ لعواملَ متعدِّدة، بعضُها واقعيٌّ وبعضُها عقليٌّ، حيثُ الواقعِي يَشمل المظاهِر الماديَّة التي تَعترِي وجُوده وتؤثِّر فيه إمَّا سَلباً أو إِيجاباً؛ كالعَمل والإنجَاب والسَّفر والسَّرقة والتَّعارك والشَّتيمة، فيكُون خاضِعاً لأحكَام القانُون ومُتغيِّرات العَادات والتَّقاليد، مُلتزِماً بسلُوك اجتِمَاعي لا يخرُج عنه ولا يتجَاوزه وإلَّا عُدَّ شاذًّا مارقًا، إذ الرَّادع لسُلوكه يتمثَّل في خوفِه من النِّظام الذي يمنعُه من القِيام بفِعل من الأفعَال وتصرُّف من التصرُّفات.

العواملُ العقليَّة أشدُّ تأثيراً رغمَ أنَّها لا تظهرُ على السَّطح، حيثُ تتخذُ أشكالاً مُختلِفة كالنقاشاتِ والحواراتِ والوصَايا والأشعَار والقصَص والمسرحيَّات والتَّوجيهات والتَّربويات؛ أيْ كلَّ ما ينتمِي إلى التُّراث غَير المادِّي ويكُون مُرتبِطاً بالثَّقافة وناتجاً عنها ومؤثِّراً فيها؛ لأنَّ الثَّقافة ليسَت فعلاً جامداً مكتفياً بذاتِه ومنغلقاً على نفسِه، بل تتَّسع وتتمدَّد مَع كلِّ رأْي وكتَابة وسُلوك وإنتَاج، ويُلاحظ ذَلك في تأثِير المنتجَات على السُّلوكيات، فكَما تتأثَّر المنتجَات بالإنسَان تؤثِّر في ثقافتِه وسُلوكه.

تتميَّز الثقافةُ بالعمقِ والشمولِ ويتميَّز الإنسانُ بالسطحيَّة والخصوصيَّة؛ لذَا سيكونُ الاختلافُ بينَ المنتجاتِ والبشرِ متعلقاً بالدرجةِ والسُّرعة، إذ الإنسَان يتأثَّر سريعاً وبِشَكل سَطحي وتتغيَّر حيَاته بِنَاء على مُنجزاتِه التي تُعيد تشكِيل عاداتِه وتقاليدِه، أمَّا الثَّقافة فتتأثَّر ببُطء وعُمق ولا تنتقِل إليها التَّغييرات إلا بَعد فَترة زمنيَّة، تمرُّ عبرَها بالكَثير من التَّجارب وتتداخَل مَع العَدِيد من العَوامل إلى أنْ تستقرَّ في شَكل مقُولات وتصوُّرات.

الأمثلةُ على التأثيراتِ الفكريَّة والسلوكيَّة كثيرةٌ وقدْ لا يُنتبه لها، فالأفكارُ تبدأُ صَغيرة وتنتشِر، وبعدَها تغدُو مسلَّمات ثابِتة إلى أنْ يَأتي ما ينقُضها ويبيِّن بُطلانها؛ كقضيَّة دَوران الشَّمس حَول الأَرض أو الخِلاف حَول الأَرض أَهي مُسطَّحة أمْ مُفلطَحة؟ وهَاتان قضيَّتان أثَارتا جِبالاً من الدَّم والحِبر في أزمِنَة سابِقة قَبل أنْ يثبُت بُطلانهما بالدَّليل العِلمي، لينتقِل النَّاس إلى الإيمَان والتَّسليم بالفكرَة الأحدَث والأكثَر موثُوقيَّة عِلميًّا وتطبيقيًّا في حيَاتهم، وهِي ما غدَت تأثِيراتها واضِحة في سلوكيَّاتهم وآرائِهم وأفكَارهم.

الثقافةُ الحيَّة تقبلُ ما يَرِدُ إليها من تبدُّلات وتغيُّرات ولا تكتفِي بالوقُوف والفُرجة، إذ تتَّجه إلى استِيراد الأفكَار من غَيرها وإدارةِ الحِوَارات حَولها؛ بغَرض الاستِفَادة وتطوِير ذَاتها والارتِقَاء بمُخرجَاتها، حتى لا تغدُو عُرضَة للجمُود والتحجُّر والانتِهَاء بالموتِ ومُغادَرة المشهَد، وهَذه إشكاليَّة تُصيب الثَّقافات التي لا تسعَى إلى تحدِيث أنظِمَتها وقوانِينها واستِبدال التَّالف من أفكَارها وموثُوقاتها، حَيث البَقاء على ذَات النَّهج يؤدِّي إلى الآليَّة ويمنَع الإبدَاع والابتِكار، وهُو ما ينتهِي إلى العَجز وعدَم القُدرة على إيجَاد الحلُول للمُشكلات والأزمَات.

أزماتُ الثقافةِ عديدةٌ ومشكلاتُها لا حصرَ لها لكنَّها قادرةٌ على التكيُّف واستِيعَابها، فهيَ صَاحبة نَفَس طوِيل ولا تخضَع لقانُون التبدُّل والتغيُّر السَّريع، وهُنا مَنشأ الإشكَال في علاقتِها بالإنسَان الذي يسعَى إلى أثرٍ فوريٍّ ومُباشِر يُخالف قوانِينها وأنظِمتَها، لذَلك سيشعُر بعدَم فهمِها والانسِجَام معَها وربَّما الخوْف منها حِينما تُسيطر وتمتلِك أَعواناً، كَما هِي الجمَاعات الإقصائيَّة في محاولتِها فَرض أفكَارها واعتقادَاتها وسلوكيَّاتها؛ ما يكشِف خِداع الثَّقافة وعدَم عدالتِها إذْ قَد تُتِيح لفكرةٍ الانتِشَار بَينما تمنَع أُخرى أصدَق وأكثَر أهميَّة وفائِدة.

واقعٌ مُزيَّف

تأثيراتُ الثقافةِ لا تقتصرُ على الآراءِ والأفكَار، بلْ تنتقلُ إلى الواقعِ وتؤثِّر في الحيَاة، فمسائِل الدِّين وقضَايا العِلم ونقاشَات الأخلَاق والنَّفس والاقتِصَاد والسِّياسة والمجتمَع حِينما تمتزِج بالسلوكيَّات والممارسَات ينكَشِف زيفُها وصِدقُها، لذَا تتبَاين رُدود الفِعل تِجاهَها بَين تطبِيق أفكَارها وآرائِها وعدِم تطبيقِها، بخِلاف المجتمعَات العلميَّة التجريبيَّة التي تخضَع نتائِجها لقوانِين صارِمة تفصِل بَين الأفكَار وتطبِيقَاتها؛ للوصُول إلى أكثَر النَّتائج صِدقاً وموثُوقيَّة.

التباينُ في ردودِ الفعلِ تجاهَ الفكرةِ وتطبيقِها على أرضِ الواقعِ يقودُ لأزمةٍ عميقةٍ داخلَ العقلِ الإنسَاني، فالاقتِنَاع بفكرَة العدَالة السماويَّة وأنَّها حَاكمة لسُلوك الأفرَاد وفِيها وردَت تشرِيعَات ونصُوص، قَد يتَنافى مَع الكمِّ الهائِل من المظَالم والتَّعديات على البَشر والإساءَة إليهم وسَلب حقُوقهم، وكَذلك الإيمَان بفكرَة الاختِيَار الحُرِّ وأنَّ الإنسَان يمكنُه القِيام بما شَاء من أفعَال يكُون وحدَه المسؤُول عنها، قَد تتَنافى مَع القدَر الذي لا يُمكن تغييرُه، فثمَّة تعارُض بَين السُّلوك العملِي والفِكرة الموجُودة في الذِّهن، وعَبر هذَا التَّعارض ينتُج كلُّ اختِلَاف وتجاذُب بَين البَشر، إذ يؤمنُون بشيءٍ ويمارسُون سُلوكا مخالفاً له.

يحتارُ العقلُ بينَ الفكرةِ وتطبيقِها، وقدْ يُفضي الأمرُ إلى رفضِها واعتبارِها مِثاليَّات طُوباويَّة لا مكَان لها، كفكرَة المدِينة الفاضِلة التي تَرى أنَّ الحكُومة العادِلة ينبغِي أنْ يكُون قائِدها أحَد الفلاسِفة، أو فكرَة الإنسَان الذي يَصِل إلى المعرِفة بالله والإيمَان به دُون مُساعَدة من أحَد، فهَاتان فكرَتان يُمكن قبُولهما في النِّقاشات والحِوَارات لكنَّ التَّسليم بهما على أَرض الواقِع أَمر مُختلِف؛ لأنَّ الحيَاة من طبيعتِها أنْ تزدَاد مُشكلَاتها وتكثُر أزمَاتها وتتعقَّد أوضَاعها وتُصبح أسوَأ، وهُو ما يَعني عدَم ”الصِّدق“ مَع الذَّات والمجتمَع.

الصِّدقُ نوعانِ واقعيٌّ وفنِّي، فالواقعِي مُطابَقة الفكرةِ للواقِع، حيثُ تتضمَّن حقائقَ ثابِتة ومستقرَّة يمتلكُها الجمِيع ويتصرَّفون وُفقها، لتَأتي السلوكيَّات مُتشابِهة مُتماثِلة؛ ما يقُود لتولِيد وَعي جماعِي قَادر على تحرِيك الجماهِير بتناغُم وتناسُق، أمَّا الفنِّي فيرَى الحقائِق فرديَّة لا جماعيَّة وأنَّ لكلِّ إنسَان حقِيقَة مُختلِفة بحسَب رُؤيتِه؛ ما يقُود لتولِيد أفكَار مُتمايِزة تؤدِّي لممارسَة سلوكيَّات مُتناقِضة، تكُون نتيجتُها خصُومات ومَعارِك تتوسَّع باستِمرَار ولا يُمكن إيقافُها.

أزماتٌ لا تتوقَّف

الاختلافُ والتباينُ بينَ الفعلِ والفكرِ قادَ إلى حصولِ لبسٍ ذهنيٍّ وسُلوكي، فكلَّما حَاول الإنسَان الانسِجَام مَع واقعِه اكتشَف عدَم إمكَانيَّة ذلِك؛ ما تسبَّب بأزمَة أصابَت كيَانه وعطَّلت قُدراته، لأنَّ الفاقِد للإيمَان بأفكَاره وسلوكيَّاته لن يستطِيع إقنَاع الآخر بها، وهِي إشكاليَّة مطرُوحة في عَالم السُّوشِيَال مِيديا وبرامِج التَّواصُل، حَيث انتِشَار الكَذب والغَش والخِداع تسبَّب في فُقدان الثِّقة بالآخر.

أساليبُ الخداعِ عديدةٌ تبدأُ من التسجيلِ باسمٍ مُختلِفٍ وصُورةٍ مُختلِفة، وإنشَاء سِيرة ذاتيَّة زائِفة وغَير حقيقيَّة، وادِّعاء التخرُّج من جَامعة تَحوي تخصُّصات دقِيقَة ونادِرَة، وربَّما تطوَّر الادِّعاء إلى المشاركَة في ندوَات وحِوارات يُدلي فيها بتصرِيحَات خاطِئَة ومُضلِّلة، وقَد يرتقِي درجَة ليفتَعِل حادِثَة تجلِب اهتِمَام النَّاس وتُثير انتِباههم؛ لأنَّ هدَف جَميع أفعَاله وسلوكيَّاته يتمثَّل في الوصُول إلى الشُّهرة والانتِشَار الجمَاهِيري، اللذَين يُعتبران عصَب الحيَاة الافتراضيَّة وأسَاس تكوِينها.

باتَ البحثُ عن الشهرةِ والانتشارِ الشغلَ الشاغلَ في زمنِ السُّوشيال مِيديا وبرامجِ التَّواصُل، فالأهمُّ ليسَ الجديَّة في اكتِسَاب المعلُومة واكتِشَاف الحقِيقَة، بل الاتِّجاه ناحِية الفُكاهَة والهزْل وإسعَاد الذَّات والآخر، ولَو على حِساب الحقِيقَة العلميَّة والفكريَّة، وهُو ما يُمكن مُلاحظته عَبر الإصرَار على اختِلاق الأكَاذيب ومُخالفة الوقائِع وإنكَار الثَّوابت، بهدَف الوصُول إلى أكبَر عدَد من المتابعِين والمشاهدِين، وهُما أمرَان يحدِّدان كيفيَّة سَير الإنسَان وطرِيقَة تفاعُله مَع مُحيطه الافتراضِي والواقعِي.

العلاقةُ بينَ العالمينِ الافتراضِي والواقعِي لا يمكنُ قطعُها مهمَا حدثَ من اختلافٍ بينَهما، فكَما أنَّ الإنسَان يعِيش الواقِع ويتأثَّر به، كَذلك يتأثَّر بالعَالم الافتراضِي ويكتسِب عَبره الصَّداقات والخِبرات والمعارِف، وإنْ لم يُمارس الحيَاة ممارسَة فعليَّة حقيقيَّة، فيكفِي أنْ ينشغِل بما يطرحُه الآخرُون وما يسعَون إليه لتختفِي البراءَة والتلقائيَّة وتحلَّ محلَّها القصديَّة والتكلُّف، حَيث يغدُو لكلِّ كلِمَة قِيمة ولكلِّ حركَة معنًى ولكلِّ صَداقة هدَف، وبالتَّالي يتحوَّل الفَضاء إلى سَاحة للعِراك والكَسب.

تتنوعُ المكاسبُ وتزدادُ بازديادِ المتابعينِ والمشاهدِين، إذْ كلَّما ارتفعَت الأرقامُ الافتراضيَّة ارتفعَت الأرباحُ الواقعيَّة؛ ما سيؤثِّر على الأفعَال والسلوكيَّات في العَالمين ويجعلُها مُتشابِهة، حَيث الوَهم والزَّيف الذي يَعيش فيه ويدَّعيه سيَنظُر إليه كحقِيقَة واقعيَّة غَير قَابلة للإنكَار، لأنَّها أسَاس شُهرته وأصْل انطلاقتِه وسبَب مَعرِفة النَّاس وإقبَالهم على مُتابعتِه، لَكن حِينما ينكشِف الخِداع ستنحجِب الثِّقة وتنفجِر الأزمَة؛ ليُصبح سبَب صعُوده وانطلاقتِه هو سبَب سقُوطه ونهايتِه.

خِتاماً

تتنوعُ حياةُ الإنسانِ بينَ عالمينِ افتراضِي وواقعِي كلٌّ منهما مستقلٌّ عن الآخر، ورُغم ذلِك ثمَّة تداخُل وتمازُج وتأثُّر وتأثِير يظهَر في الأفعَال والأقوَال، فالسلوكيَّات المكتسَبة من أحَد العَالمين يتمُّ ممارستُها ضِمن العَالم الآخر، وإذا كَانت مِيزة العَالم الافتراضِي تتمثَّل في التَّخفي وعدَم الانكشَاف وغلبَة الزَّيف والخِداع فإنَّ العَالم الواقعِي عَكس ذلِك تماماً، لَكن بسبَب وقوعِه تَحت طَائِلة التأثُّر والتأثِير سيتَّجه إلى مُشابهة الافتراضِي، ما يفتَح البَاب واسعاً أمَام أزمَات لا تتوقَّف تعصِف بحيَاته وتصبغُها بطابَع التكلُّف والحذَر؛ ليَفقِد براءَته وتلقائيَّته ويمِيل إلى الادِّعاء والتَّزييف، وهِي إحدَى أكبَر مُشكلات السُّوشيال مِيديا وبرامِج التَّواصُل.