اليتيم… ليس بحاجة إلى دموعك بل إلى أن تراه إنسانًا كاملًا
قراءة في المفهوم، وتفكيك للصور النمطية، وتقديم لحلول إنسانية
حين يُذكر ”اليتيم“، كثيرٌ من العقول والقلوب تهرع سريعًا إلى العاطفة: دموع، شفقة، حملات تبرع، صور أطفال بملابس ممزقة وعيون زائغة. هذا المشهد المكرر يطغى على تفكيرنا، فيختزل اليتيم في صورة فقير منكسر يحتاج إلى إنقاذ عاجل.
لكن هذه النظرة، رغم نبلها في ظاهرها، تختصر اليتيم في ما فقده لا في ما يمتلكه، وتُبقيه أسيرًا لصفةٍ لا ذنب له فيها.
فهل نُحسن إلى اليتيم بهذا التصوّر؟
وهل الشفقة هي ما يريده فعلًا؟ ما هو ”اليُتم“ في عمقه؟
اليتيم ليس فقط من فقد أباه، بل من فقد الركن الأول في شعوره بالأمان.
لكن الحياة لا تتوقف عند نقطة الفقد، بل تبدأ من بعدها.
اليُتم لا يعني الضعف، بل هو حالة انتقالية قد تكون بوابة إلى النضج، إذا وُجدت يدٌ تمسك، وعينٌ تحترم، وعقلٌ يؤمن.
اليتيم طفل - أو شاب - يعيش في مجتمع قد يُشفق عليه أكثر مما يُشركه، يرقّ له أكثر مما يثق فيه، ويُعطيه مساعدات أكثر مما يُعطيه فرصًا. من المساعدة إلى التمكين
المجتمعات المتقدمة لا تكتفي بتوفير الطعام والملبس لليتيم، بل تنتقل إلى التمكين:
أن تمنحه الأدوات، والتدريب، والمكانة، ليصنع مسيرته بنفسه.
نحن نرتكب خطأ فادحًا حين نُشعر اليتيم أن المجتمع يعمل من أجله لا معه.
وحين نُثقل عليه برمزية ”الضحية“ بدل أن نعامله كشخص قادر، ولو بعد حين، على النهوض.
من أخطر ما يواجهه اليتيم هو النظرة المشفقة التي تُقيده نفسيًا، فتمنعه من بناء صورة قوية عن نفسه.
حين ننظر إليه بعين العجز، لا نستطيع أن نرى فيه قائدًا، أو مفكرًا، أو مبدعًا.
وهذا أخطر من الفقر… لأنه فقد في المعنى لا في المال.
في المقابل، حين نُشبعه بالدعم العاطفي والمادي دون توجيه أو تربية حازمة، نخلق جيلًا هشًا، يرى الدنيا مدينة له دائمًا بالتعويض، دون أن يعي دوره ومسؤوليته.
1. التعامل التربوي لا العاطفي فقط
يجب على المؤسسات والمربين أن يُخرجوا اليتيم من دائرة ”المسكين“ إلى دائرة ”المتعلّم، المسؤول، القادر“.
التربية على المسؤولية، الانضباط، واتخاذ القرار جزء أساسي من بناء شخصيته.
2. إعادة إنتاج الصورة الذهنية لليتيم
نحن بحاجة إلى إعلام يُظهر اليتيم كشخص قوي، ناجح، مُلهم، لا مجرد متلقٍ للعون.
البرامج التلفزيونية، القصص، المناهج التعليمية، وحتى الخطب الدينية… يجب أن تساهم في تصحيح النظرة.
3. فرصٌ لا إعانات
فتح باب المنح الدراسية، برامج التدريب، ورش العمل، التوظيف في وظائف تحترم كرامته لا تشعره بالدونية.
هناك من الأيتام من يملك ذكاء نادرًا، لكنه يظلّ محاصرًا في بيئة تتوقع منه فقط أن ”يعيش“ لا أن ”ينجح“.
4. الاحتواء الأسري البديل
يجب على المجتمعات أن تُحيي مبدأ ”الأسرة الممتدة“؛ فليس كافيًا أن نضع اليتيم في مؤسسة.
يحتاج إلى عم، خال، جد، أو حتى صديق عاقل يشعره أنه ابن عائلة، له حضن، وله ظهر.
5. إشراك الأيتام في صناعة القرار
لا يكفي أن نُقدّم للأيتام برامج جاهزة… يجب أن نسمع منهم.
ماذا يريدون؟ ما الذي ينقصهم فعلًا؟ ما الذي يؤذيهم؟
الشراكة لا تبدأ من فوق، بل من بينهم.
6. رعاية ما بعد البلوغ
كثير من الأيتام يُسحب من تحت أقدامهم كل الدعم فجأة عند سن الثامنة عشرة أو العشرين.
وكأنهم فجأة لم يعودوا بحاجة إلى أحد!
يجب أن تستمر الرعاية الفكرية والنفسية والمالية ولو بشكل جزئي، حتى يقف الشاب أو الشابة على قدمه بثقة.
اليتيم لا يريد أن يُعامل كقضية دائمة، بل كإنسان طبيعي.
إن أعظم إحسانٍ إليه ألا تراه ناقصًا، وألا تذكّره كل لحظة بما فقده، بل تذكّره بما يمكن أن يكونه.
اليتيم لا يريد أن يكون ”مادةً للعطف“، بل مشروعًا للنجاح.
لا يحتاج إلى أن تُغرقه في الإعانات، بل أن تفتح له طريق الاستقلال.
حين تراه شريكًا لا مستهلكًا، عاديًا لا استثنائيًا بالعجز، فأنت بذلك تخرجه من ضيق الصورة النمطية إلى سعة الحياة الكريمة.
اليتيم لا يريد أن يعيش على هامش الحياة بل في قلبها…
فهل نُغيّر نظرتنا؟
أم نُبقيه أسير دمعةٍ نمسحها سريعًا لنعود إلى انشغالنا؟