رفقاء الدرب
لا أحد فينا يعرف متى بدأ هذا العهد بالضبط، لكنه صار من ثوابت العام… مثل عاشوراء، مثل أول قطرة مطر، مثل ضحكة أمّك حين تعود من الغربة.
كنا جماعة متفرقةً، تجمعها النيّة وتوحّدها الزيارة، ومنذ أول أربعين عُقدت فيه نيتنا على المسير، صار لكل واحدٍ منا دورٌ محفوظ… كأنه خُلِق له.
أبو أحمد، مثلًا، لا يعرف الفرق بين البقدونس والنعناع، لكن إذا دخل المطبخ، وزّع المهام كأنه قائد عسكري في معركة طهيٍ مقدّسة.
وأبو عبدالله؟ هو الوحيد الذي يفهم حجز الطيران. لا لأنه كثير السفر، بل لأنه وحده يحفظ ”كلمة المرور“ لكل حساباتنا… بقلبه!
أما أبو حسين، فهو رئيس لجنة الزاد دون منازع. لا يشتري شيئًا دون مفاوضة، حتى لو كان الموز على حافة الهلاك، يصرّ على أخذه بسعر خاص، ويقول بثقة:
”ترى زين للي عنده سكّر!“
وأنا؟ لا يظهر لي دورٌ إلا عند الطوارئ… أو انقطاع الكهرباء… أو ضياع أحد الفريق في السوق. في تلك اللحظات، أتحوّل إلى ”منسق البحث والإنقاذ“.
كل شيء يبدأ برسالة واتساب عفويّة، في آخر محرّم:
”إخوان، نبدأ الترتيب؟“
وكأن الأرواح تنتظر إذن الانطلاق، فتتحرك الأصابع، وتنهمر الاقتراحات كالسيل:
”أنا أحجز البيت“
”أنا أرتّب السيارة“
”أنا أشتري المؤنة“
”أنا أطبخ اللحم… بس لا أحد يتفلسف!“
ثم تبدأ المناوشات الصغيرة.
من المسؤول عن نقطة التجمع؟ لماذا نشتري ”حليب مكثف“؟ وهل نحتاج كرتون موية زيادة؟ ولماذا يحجز أبو سلمان في فندق بلا مصعد؟
لكنها تبقى مناكفات المُحبّين، لا تعيش إلا في البيوت العامرة بالنيّة.
في إحدى السنوات… نسيْنا أحدهم في كربلاء. نعم، نسيْناه حرفيًا!
ركبنا السيارات بعد الزيارة، والقلوب لا تزال ترتجف من الوداع، ووسط الطريق صاح أبو حسن:
”وين أبو سيد علي؟!“
ساد الصمت.
توقف السائق.
وفجأة، وصلنا فيديو قصير: أبو سيد علي واقفٌ في الزحام، يلوّح برايته، ويبتسم قائلاً:
”خلّوني للعبّاس… ما يحتاج أرجع!“
ضحكنا يومها كثيرًا. ضحك فيه شوق، وفيه دمعة، وفيه يقين بأن هذا الطريق لا يترك أحدًا خلفه.
كل عام تتكرّر الطقوس، لكن الشوق يبقى جديدًا، كأنّه يولد من رحم الانتظار.
كل واحد منّا يترك عمله، وبيته، وراحته، ليعود إلى شيء أعمق من المكان… إلى أربعين الحسين.
القرّاء يهيّئون القصائد، والخطيب يجهّز نعيه اليومي، والذاكرون يحفظون لحن الوجدان، والمضيفون يتفنّنون في تقديم الشاي ”المُخدّر“ كأنّه دواء شوقٍ قديم.
والزائرون؟
يمشون. لا يسألون عن تعب، ولا ينتظرون شكرًا… فالجَمال هنا لا يُقاس بالراحة، بل بنيّة القلب.
مرةً، رأيت أحد الإخوة يحشو التمر بالجوز في الزحام. سألته مبتسمًا:
”ليش تتعب نفسك؟ خليه سادة.“
أجابني بهدوء:
”أقدّمه بطريقة تشبه ما في قلبي، مو ما في جيبي.“
تلك هي فلسفة الأربعين.
أناسٌ عاديون… لكنهم حين يُحبّون الحسين، يصيرون استثنائيين.
قد نتجادل على نوع الرز، أو توقيت الانطلاق، أو ترتيب البطانيات والشنط فوق الحافلة…
لكننا نمشي بخطوة واحدة، وندعو بدعاءٍ واحد:
”إلهي، اجعلنا ممّن يسيرون لا لأجل المشي، بل لأجل الحسين، ومن أحبّ الحسين.“
هؤلاء هم رفقاؤنا…
كل عام، وفي كل أربعين، تزداد وجوههم نورًا، ونزداد بهم عزوة.
وحين نعود… لا نعود كما كنا.
ولعلّ أجمل ما في الحكاية، أن الجميع… دون أن يدري… يكتب اسمه في سجل الزائرين عند حبيب شيخ الأنصار.
ذاك السجلّ الذي لا يعرف الحبر، بل يعرف الشوق، ويُكتب بالدمعة لا بالقلم.
— رفقاء الدرب —
ليسوا فريقًا تنظيميًا… بل عائلة من شتّى البيوت، جمعها حسينٌ لا يشبهه أحد.
وكلّ من سكن قلبه الحسين… صار له معهم مكان، حتى لو لم يمشِ يومًا.