آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 2:00 ص

ستة لا تصاحبهم

ياسر بوصالح

عثرتُ مصادفة على رواية للإمام زين العابدين علي بن الحسين ، يخاطب فيها ولده الإمام محمد الباقر بوصايا حافلة بالحكمة والتبصّر، إذ يقول:

«يا بني، انظر خمسة فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق.»

قلتُ: يا أبتِ، من هم؟ عرّفنيهم.

قال:

• إياك ومصاحبة الكذاب؛ فإنه بمنزلة السراب، يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب.

• وإياك ومصاحبة الفاسق؛ فإنه يبيعك بأكلة، أو بأقل من ذلك.

• وإياك ومصاحبة البخيل؛ فإنه يخذلك في ماله عند أشد حاجتك إليه.

• وإياك ومصاحبة الأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.

• وإياك ومصاحبة قاطع الرحم؛ فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله عزّ وجل في ثلاثة مواضع:

قال الله تعالى:

﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: آية 22.23]

وقال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: آية 25]

وقال أيضًا:

﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: آية 27]

وعندما شرعتُ في استنطاق الرواية، تدافعت إلى مخيلتي الأسئلة كأنها نوافذ انفتحت دفعة واحدة على عوالم لم تكن تُرى. فحاولتُ أن أدوّنها سريعًا، لا رغبةً في الاستعراض، بل إشراكًا للقارئ العزيز في رحلة تنقيبٍ، عسى أن يعينني في سبر أغوار هذه الحكمة المتوارية بين السطور، وكأن الرواية حجر كريم، كلّما قلّبتُه، انكشفت لي وجوه جديدة من المعنى، وزوايا لم تَبح بها إلا لمن أطال الوقوف عندها.

”لا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق“

• هل هذا النهي مولوي «إلزام شرعي»، أم إرشادي ينبني على التجربة؟ وهل يفصل النص بين الواجب والتحذير؟

• لماذا هذا التصعيد التدريجي: من المصاحبة إلى المحادثة إلى المرافقة؟ أهي دعوة إلى تفكيك كل صلة قد تمهّد للتأثر؟

• ألا تحمل كل واحدة منها أثرًا مختلفًا في تشكيل الوعي؟ هل أراد الإمام بهذه الصيغ رسم حدود التلوث الأخلاقي، بدءًا من الألفة الروحية إلى التلاقي الجسدي؟

• هل يمكن أن يتسلّل الانحراف من مجرد محادثة؟ ألا يدل هذا على أن الشر ليس دائمًا في الأفعال الكبرى، بل حتى في التفاصيل الصغيرة التي تمرّ دون اكتراث؟

• ثم لماذا قال ”في طريق“؟ أهو مجاز عن رحلة الحياة؟ أم تنبيه على لحظات التشارك العابر التي نظن أنها لا تصنع فارقًا؟ هل الطريق هنا طريق الجسد أم طريق الفكر؟ وهل الترافق في الاتجاه يكشف عن تشابه خفيّ في المقاصد؟

”إياك ومصاحبة الكذاب؛ فإنه بمنزلة السراب...“

• لِمَ استُعمل لفظ ”الكذّاب“ دون ”الكاذب“؟ هل أراد الإمام الإشارة إلى نمط لا إلى حادثة؟

• كيف يُكتشف الكذّاب قبل مصاحبته؟ أهي بصيرة الفرد أم شهادات الجماعة؟ وهل تكون هذه الشهادات أحيانًا ظنًّا لا علمًا؟

• لماذا شُبّه بالكذاب بالسراب؟ أهو لإبراز خِداعه المعرفي؟ أم لتصوير هلاكه في المآل والعاقبة؟

• هل الكذب خطيئة اللسان فقط، أم نمط حياة يدير صاحبه ظهره للحقيقة باستمرار؟

• وهل أخطر ما في الكذاب هو تغييب البوصلة؟ أن يجعلنا نظن أننا على صواب ونحن نغوص في التيه؟

• يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب"—هل هذه العبارة تشير إلى تحريف الإدراك؟ هل الكذاب يصنع عالمًا افتراضيًا يخلط فيه الحق بالباطل؟

• وهل أخطر أنواع الكذب هو ذلك الذي يغلفه ببراعة الإقناع حتى تظنه فكرًا؟

”وإياك ومصاحبة الفاسق؛ فإنه يبيعك بأكلة“

• ما سر هذه الصورة العنيفة: أن تُستبدل الصداقة بطبق؟ ألا تذكرنا هذه المبالغة بتجربة عيسى مع يهوذا الإسخريوطي إذ باعه بحفنة من فضة؟

• هل الفسق هنا سلوك أم استعداد؟ هل هو الخيانة نفسها أم القابلية الدائمة لها؟

• وما دلالة ”أكلة أو أقل“؟ هل المقصود أن الفاسق لا يحسب للعلاقة وزنًا؟ أم أن السفالة تبلغ به حدًّا لا يُعطى فيه الإنسان حتى ثمنًا معتبرًا؟

• ثم كيف يُكتشف الفاسق قبل مصاحبته؟ أهي بصيرة الفرد أم شهادات الجماعة؟ وهل تكون هذه الشهادات أحيانًا ظنية لا قطعية؟

• ما تعريف الفاسق؟ أهو المرتكب للكبائر أو المصرّ على الصغائر؟ أم كلاهما؟

• ومن منا ليس مصرًّا على بعض الصغائر؟ أفيكون لسان حال الرواية هو التحذير لفاسق من فاسقٍ آخر؟ «مع الاعتذار عن التجاسر»

”وإياك ومصاحبة البخيل؛ فإنه يخذلك في ماله...“

• كيف يخذلك البخيل في ماله وأنت أحوج ما تكون إليه؟

• هل هذا النهي يوحي بأن العلاقة تحتاج إلى تضحية مادية وقت الشدة؟

• وهل البخل هنا مجرد نقص في الكرم، أم جفاف في الروح؟

• وهل الأخطر في البخيل أنه يراك تتألم ويظل صامتًا؟ ألا يملك البخيل شيئًا أكثر خيانة من المال؟

• وهل البخل يُترجم أحيانًا إلى بخل بالعاطفة والدعم النفسي؟

• وهل يشبه البخيل الفاسق في الخيانة، لكن الفارق أن خيانة الفاسق خارجية بينما خيانة البخيل داخلية؟

”وإياك ومصاحبة الأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك“

• لماذا يحذر الإمام من النية الطيبة إذا كانت في عقل أحمق؟

• هل كل نية حسنة يجب أن تُقترن ببصيرة؟ وهل الحمق هنا غياب في الفهم أم سوء تقدير؟

• هل خطورة الأحمق تكمن في استحالة توقع تصرفاته؟

• كيف نتعامل مع من يحبنا لكنه يؤذينا بلا قصد؟

• هل من النبل أن نصبر على الحمق، أم من الحكمة أن نعتزل عنه؟

وقد تناولتُ جانبًا من هذا المعنى في مقالةٍ سابقةٍ بعنوان هل نحن حمقى؟، حيث انتهت فكرتها إلى سؤالٍ معلّق: من الأحمق؟ ومن أحمق من مَن؟

”وإياك ومصاحبة قاطع الرحم؛ فإنه ملعون في كتاب الله...“

• لماذا خُتمت الوصايا بقاطع الرحم؟ هل لأنه يجمع صفات من سبقوه: خيانة، بخل، وحمق؟

• هل قطع الرحم يعكس سقوط الإنسان عن مستوى الفطرة؟

• لماذا شدّد القرآن في أكثر من موضع على لعنة هذا السلوك؟

• وهل قطع الرحم فعل اجتماعي أم تجلٍّ لخلل أخلاقي عميق؟

وأقول ختامًا: هذه الرواية ليست تحذيرًا عابرًا، بل بناء أخلاقي متماسك، تُستخرج منه منهجية في الاصطفاء، ومعيار دقيق في الانتماء. وقد بذلت فيها جهدًا ذهنيًا غير يسير، محاولًا استنطاق ما اختزنته من كنوز معرفية وأخلاقية، بقدر ما يسمح به ذهني المتواضع.

ولذا، لا يسعني إلا أن أُعجب - وما لي لا أُعجب - من بعض خطباء المنبر الحسيني الذين يختزلون سيرة الإمام السجاد في محاضرة لا تتعدّى سرد سنة ولادته واستشهاده، وذكر اسم أمه، وعدد أولاده، ويختمونها بالمعلومة المتداولة أنه كان أحد البكّائين الخمسة!

بل ما يستفز أكثر هو أن يُستغل وقت المنبر في تحفيز جمهور المستمعين بالتكرار المفرط للصلاة على محمد وآل محمد، لا لبعث الحياة في النفوس، بل لإضاعة وقت المحاضرة وتجميل عجزه الفكري، حتى أصبح ذلك الترديد الشعائري حشوًا صوتيًا هامشيًا، أكثر منه ارتقاءً روحيًّا يوقظ الأرواح.

تنويه متواضع

وبالمناسبة، فإن عنوان المقالة كان ينبغي أن يكون خمسة لا تصاحبهم لا ستة، اقتباسًا من عدد الشخصيات المذكورة في الرواية المنسوبة للإمام السجاد . لكنني أضفت سادسةً «وأعتذر عن التجاسر»، إذ لعلّكم تتفقون معي في أنها لا تُصاحب، بل تُجتنب: وهي الشخصية السلبية التي لا تضيف لأخلاقك هدى، ولا لعقلك فكرًا، لأنها لا تدفعك إلى الأمام، بل تجذبك إلى الوراء بل إلى الحضيض.