آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 2:00 ص

تحرير المصطلح ضرورة معرفية

غسان علي بوخمسين

تحتاج بعض الأدوية مثل الأدوية السامة للخلايا Cytotoxics المستخدمة في علاج الأمراض السرطانية، إلى حرص وعناية في تحديد جرعتها المناسبة للمريض حتى يمكن ضمان القضاء على المرض وتحقيق الشفاء بإذن الله بأقل جرعة ممكنة، وذلك للحد ما أمكن من الأعراض الجانبية الخطيرة لهذه الأدوية السامة، فهي مواد قاتلة للخلايا السرطانية والطبيعية على حد سواء للأسف. لذلك يبحث العلماء عن الفوارق الجينية والوراثية بين السلالات البشرية المختلفة، ومقدار التأثير العلاجي المتباين بين هذه السلالات، فما يلائم القوقازي الأوروبي قد لا يلائم العربي وما يصلح للآسيوي الصيني قد لا يصلح للأفريقي وهكذا، ومن ذلك، انفتح في العقدين الآخرين فرع جديد في علم الأدوية يسمى علم الصيدلة الجينية Pharmacogenomics وهو أحد فروع علم الصيدلة، والذي يتعامل مع تأثير التنوع الوراثي على الاستجابة للأدوية في المرضى من خلال ربط التعبير الجيني أو تعدد أشكال النيكليوتيد المفرد مع فعالية الدواء أو سميته.

ومن خلال القيام بذلك، يهدف علم الصيدلة الجيني إلى تطوير وتنمية الوسائل النسبية للوصول بالعلاج الدوائي إلى درجة الكمال والفعالية القصوى، مع مراعاة التركيب «النمط الجيني» «genotype» للمريض، لضمان تحقيق أقصى فعالية بأقل قدر من الأعراض الجانبية. وهذا يفتح مجالاً واعداً للطب الشخصي؛ والذي بواسطته تتوافق الأدوية وتركيباتها المختلفة مع البنية الجينية الفريدة لكل فردٍ على حدة. وهذا هو غاية الرقي والكمال في عالم الدواء والعلاج بحيث يتناول المريض الدواء الملائم لحاجته بالضبط بلا زيادة ولا نقصان.

بعد هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء من عالم المرض والدواء، أنتقل إلى هدفي من المقال، وهو عالم اللغة والمعاني والمفردات. فإننا سنجد أنفسنا أمام نفس المعضلة. وهي حاجتنا الماسة والملحّة، أن نفحص ونختبر ونتمعن في المصطلحات السائدة والمتداولة في حديثنا وكتاباتنا، فنحن نستعملها ونأخذ بمدلولاتها، ونؤمن ونعتقد بها، ولم نحرز مطابقتها لواقعنا وتلبيتها لحاجتنا منها، وقد يتسبب التبني لأحد المصطلحات المستوردة وما يحمله من دلالات إلى تأثير معرفي سلبي للأسف، بحيث يؤدي إلى تخريب في منظومتنا الفكرية.

ينبغي علينا من البداية، أن ننتج مصطلحاتنا الخاصة بنا، والتي تنبت من وسط بيئتنا وثقافتنا، وتكون وليدة معاناتنا ومعايشتنا لظروف حياتنا اليومية، وتعبر عن ذواتنا الفكرية والثقافية الخاصة بنا وتعالج مشاكلنا، وتكون مفردات هذه المصطلحات نبتة أصيلة من لغتنا الأم ومعانيها ودلالاتها الفكرية منبثقة من بنات أفكارنا، وتعكس مزاجنا الفكري والأخلاقي، لا نبتة شيطانية مستوردة من بيئة ثقافية مغايرة، بل وقد تكون معادية وما يخلفه ذلك من مطبات ومآزق معرفية خطيرة.

إن استيراد المصطلحات الوافدة علينا من الحضارات المتقدمة علينا ومحاولة ترجمتها ليست هي الحالة المثالية، لأننا حينها سنضطر إلى أن نلبس تلك المصطلحات مفاهيماً ودلالةً، غالباً ما تكون أجنبيةً عنا وغريبةً عن ثقافتنا ومزاجنا الفكري والاجتماعي، وما يورثه ذلك من أزمات معرفية وفكرية، وصدام مع الثقافة السائدة والموروث الفكري لدينا. ومن هذه المصطلحات المستوردة، الليبرالية والديمقراطية، فالمصطلحان نتاج واقع مجتمعي غربي، أي حالة ذلك المجتمع بما يحمل من إشكالياته هو، وليس بالضرورة هي إشكالياتنا وتحيزاتنا، بمعنى آخر، ليبرالية الغرب وحداثته هي الصورة التي توصل لها الغرب لحل مشاكله هو، ولذا ما هي الصورة التي ابتكرناها نحن لحل مشاكلنا؟ والحديث يطول عن حالة استيراد المصطلح في الثقافة العربية، فمن الديمقراطية «بالمعنى الغربي» التي لم نحقق ما حققه الغرب منها، إلا الكثير من هوس الاستيراد إن جاز القول.

أنا ملتفت أن ثمة من المصطلحات ما هو من قبيل المشترك الإنساني، كما هو الشأن في العلوم المادية بشقيها النظري والتطبيقي وأنه بالإمكان تخليصها من كل خصوصيّة ثقافية، ولكن قسماً آخر منها لا ينفك يرفل في خصوصيته الثقافية، ولعل هذا ألصق بطبيعة العلوم الإنسانية.

لقد أدرك أسلافنا أنه بالنظر إلى المجتمع، تُدرك هوية القيم التي ينتمي إليها، وبالنظر إلى القيم تدرك هوية المجتمع الذي يتمثلها، فانتسبوا إلى ثقافتهم؛ لأنهم كانوا يفكرون داخلها، فتشكلت هويتهم من لغتهم القومية، وتراثها الأدبي والتاريخي والثقافي، وما منعهم ذلك من التفاعل مع ثقافات الأمم الأخرى، فكان أخذهم وتركهم كلاهما عن بيّنة، بينما غابت هذه الحقيقة عن أذهان الكثيرين من الخلَف؛ بسبب غياب المنهجية في مسالك الرفض والقبول مما طرح تاليا تغليب المزاج والاعتباطية على كل ضابط ونظام.

في الختام، أنا لست ضد الاستفادة والنقل من الثقافات الأخرى والأخذ من نتاجاتهم الفكرية والعلمية، ولكن علينا استحضار هويتنا الثقافية الخاصة بنا على الدوام والاعتزاز بها، وعدم التماهي والذوبان في ثقافة الآخر، وعلينا محاولة تحوير وإعادة صنع ذلك المصطلح أو المفهوم بما يلائم ثقافتنا وحضارتنا، ولا يفوتني الإشارة أن هذا النقل والاستفادة هو الاستثناء، بينما تظل القاعدة أن نكون المنتجين لمفاهيمنا ومصطلحاتنا حيث تتم ولادتهم كأبناء شرعيين لثقافتنا ومجتمعنا نعتز ونفخر بهم.