السحر وتفكك الأسرة: ملف مسكوت عنه
في أروقة البيوت، حيث تُنسج العلاقات الأسرية في خيوط المودة والرحمة، ثمة تصدعات غير مرئية تبدأ بالهمس وتنتهي بالقطيعة. زوجان عاشا سنوات من التفاهم، ينقلب بينهما الحب إلى نفور بلا مقدّمات واضحة. إخوة يتباعدون وكأن بينهم خصومة قديمة. أبناء ينفرون من آبائهم فجأة، أو يتغير سلوكهم بصورة حادة وغير مألوفة. وفي كثير من هذه الحالات، لا تكشف الأسباب الظاهرة عن تفسير مقنع. هنا يظهر سؤالٌ خفي لا يُطرح بسهولة: هل يمكن أن يكون هناك أثر غيبي لا نراه؟
لقد تحدّث القرآن عن إمكانية وجود تأثيرات خفية تُفرّق بين الناس، فقال تعالى:
”فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله“ [البقرة: 102].
هذه الإشارة الصريحة إلى ما يُسمى سحر التفريق، تدفعنا إلى النظر في الظاهرة، لا من باب التهويل، بل من باب الفهم، والتعامل مع ما لا يُرى، دون أن نفقد البصيرة في ما يُرى.
سحر التفريق، كما جاء في كتب التفسير والفقه، هو عمل يُراد به زرع الكراهية أو النفور بين شخصين، غالبًا زوجين أو قريبين، عبر أدوات غيبية، يُستعمل فيها أثر من أحد الطرفين، ويُسخَّر فيها خادم من الجن، فيحدث تأثير نفسي أو عاطفي غير مبرر. قد يرى أحدهم الطرف الآخر على غير صورته، أو يشعر بضيقة شديدة عند لقائه، أو ينفر منه بلا سبب، ويقاوم كل محاولة إصلاح.
لكن من الإنصاف أن نبدأ من هنا: ليس كل خلاف عائلي مردّه إلى السحر. العلاقات تمر بطبيعتها بأزمات وتقلبات، والاختلافات الشخصية، والضغوط الاقتصادية، والاحتياجات النفسية، كلها أسباب واقعية لانهيار بعض العلاقات. ومع ذلك، حين تكون هذه الخلافات مفاجئة، متكررة، مستعصية على الحل، ومصحوبة بأعراض غير مألوفة، كالأرق المستمر، أو الضيق الروحي، أو العزلة القهرية، أو الكوابيس المتكررة، فقد يكون من الحكمة أن نضع احتمال ”التأثير الخفي“ على الطاولة.
من أهم ما يجب التنبّه له في هذا السياق، هو التحصين الروحي والوقاية الإيمانية التي لا تتعارض مع المنهج العقلي. لقد أجمعت كتب التراث - على اختلاف مدارسها - على أن تلاوة بعض الآيات المباركة تُعين على دفع الأذى، مثل: آية الكرسي، خواتيم سورة البقرة، سور الإخلاص والفلق والناس، والآية: ”فلمّا ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله“ [يونس: 81]. هذه الآيات تُتلى بخشوع وتوكل، ويمكن قراءتها على ماء يُشرب ويُغتسل به، كوسيلة روحية للاستشفاء.
كذلك فإن الدعاء الصادق من قلب يثق بالله له أثر بالغ في تهدئة النفس ورفع البلاء. الدعاء ليس مجرد طقوس، بل اتصال حقيقي بمن بيده مفاتيح الغيب. ومن الأدعية المناسبة لهذا السياق: ”اللهم اجعل لي من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل سحر وأذى سلامةً وعافية“.
من الوسائل الأخرى التي أشارت إليها بعض النصوص الشرعية والمجربة: الاغتسال بالماء المقروء عليه، خصوصًا إذا أُضيف إليه ورق السدر أو ماء الورد، وكذلك التبخر بالأعشاب الطيبة - كالحَرمل - بشرط أن يكون ذلك في أجواء إيمانية لا في مناخ من التعلق بالوهم أو الجهل.
لكن في المقابل، يقع كثيرون في فخ خطير: اتهام الآخرين بالسحر دون بيّنة. هذه الاتهامات قد تكون أشد فتكًا من السحر ذاته، لأنها تزرع الشك، وتقتل الثقة، وتُمزق ما بقي من الأواصر. الإسلام - بكل مذاهبه - لا يجيز اتهام أحد بمثل هذا الأمر دون دليل قاطع. بل إن سوء الظن منهيّ عنه، فكيف إذا أفضى إلى قطيعة الرحم والعداوة بين الناس؟
في هذا السياق، من الضروري أن نُعيد الاعتبار إلى مفهوم ”التوازن“. لا نبالغ في الإنكار، ولا نغرق في التصديق الأعمى. نتحصن، نعم. نراقب الأعراض، نعم. لكن لا نعطل العقل، ولا ننفصل عن الواقع. فالسحر - إن وُجد - لا يُضر إلا بإذن الله، ولا يصيب إلا من أعرض عن التحصين، أو فتح في قلبه ثغرة للوهم، أو جعل اليأس يسكنه أكثر من الرجاء.
ومن باب المسؤولية المجتمعية، فإن من واجبنا أن ننشر ثقافة التحصين والفهم، بدل ثقافة الخوف والتشكيك. أن نُربي أبناءنا على الثقة بالله، وعلى التمييز بين الإيمان والتعلق بالخرافة. وأن نُعيد إلى الأسرة أجواء الذكر، والدعاء، والتواصل الصادق، لأنها الحصن الأول ضد كل ما يُفسد العلاقة، سواء كان مرئيًا أو غير مرئي.
في الختام، فإن أكثر ما يضعف السحر أو يحوله إلى لا شيء، هو البيت الذي يملؤه اليقين، والعقل، والذكر، والصدق. فالقلوب إذا ارتبطت بالله، لا تُفرّقها أيدٍ خفية، ولا تفتّ في عزمها وساوس لا سند لها.
”وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله“ [يونس: 107].
نصائح وقائية للأسرة
خصصوا وقتًا يوميًا، ولو قصيرًا، لقراءة أذكار الصباح والمساء، بمشاركة أفراد العائلة.
لا تُسارعوا إلى ربط كل مشكلة بالسحر؛ فغالبًا ما يكون السبب واضحًا في السلوك أو التواصل أو الضغوط.
عند الحاجة، لا تترددوا في استشارة مختص نفسي أو اجتماعي، جنبًا إلى جنب مع التحصين الروحي
علّموا أبناءكم التمييز بين الإيمان الحقيقي والخرافة، وبين الكرامة والوهم.
اجعلوا البيت بيئة طاهرة: بالمحبة، بالصدق، وبذكر الله… فذلك أقوى من كل الحُجُب والطلاسم.
السحر قد يكون موجودًا، نعم، لكنه ليس أقوى من الوعي، ولا أعظم من دعاءٍ نابع من قلب مؤمن.