كربلاء في سرديات الطبري.. مقاربة بنيوية
للباحث السويدي في الدراسات الدينية الدكتور تورستن هيلين، اهتمامات مبكرة بالنصوص التاريخية الخاصة بواقعة كربلاء، وكان قد نشر دراسة بعنوان
Husayn, the Mediator
في عام 2007، يتناول فيها بالتحليل البنيوي حادثة كربلاء، أو ما يسميها دراما كربلاء، كما يرويها أبو جعفر محمد الطبري، المؤرخ الإسلامي الذي عرف بنبوغه واتساع اهتماماته منذ الطفولة، حيث كتب في الفقه والتفسير بمثل ما كتب في التاريخ.
ينشغل الباحث هيلين بالطريقة التي يجري فيها استعادة التاريخ، فالتاريخ بوصفه سردا يستند إلى حاجتنا للتذكر، ولافتراض وجود ما يثير الفرد في هذه الذاكرة، ويتصل بما هو أكبر وهو الذاكرة الجمعية، فعملية جمع الأحداث التاريخية وإعادة سردها هي برأيه عملية واعية ومقصودة لتشكيل وبناء وإعادة تكوين قصص تكشف عن نوايانا من خلال السرد، السرد الذي سيهب تاريخنا بعده الأسطوري، بمعناه الذي يقترب من عملية الخلق لمعنى يمكنه التدفق عبر الزمن، ولا يتوقف في الماضي فقط.
التمهيد النظري لمفهوم الأسطورة يأخذ مساحة واسعة من الفصول الأولى للدراسة، وهو يدرك مخاطر الاستخدام لهذا الوصف الذي يتداخل معه مفهوم الخرافة في الذهنية العامة، مستعيدا بعدها عددا من الدراسات التي سعت لمقاربة الأسطورة في النصوص الإسلامية بما فيها النص القرآني، والتي تتصل بالأحداث الحاسمة في تاريخ العالم، وبالوعود الإلهية التي تشترك فيها الأديان السماوية، فثمة برأيه ثلاثية حاضرة في النص القرآني، أولها الوعد بالخلاص، وثانيها سرد المعارضات التي مر بها الأنبياء، وثالثها ما يسميه الفداء، واتباع الأنبياء.
يرى هيلين بأن الطبري لم يقدم موقفا سياسيا في سرده للأحداث، وإن كان واضح الانحياز لشخصية الحسين ومأساته، فهو حرص على تقديم تراجيديا الواقعة عوضا عن الانشغال بسرد التنازع السياسي في المواقف بين الطرفين، وهذا برأيه ما يفسر بنية السرد التي ألبست السرد التاريخي لبوس السرد الدرامي، منذ بداية الإعلان عن خلافة يزيد وطلب البيعة من الحسين، ويفسر طبيعة تقديم الشخصيات وصياغة نهايات الأحداث المأساوية لواقعة كربلاء. لم يكن الطبري بحسب الباحث محسوبا على التشيع، فهو سني العقيدة والشريعة، مهتما بالبحث في صلاح السلطة الإسلامية وليس من الداعين للثورة عليها، بيد أن حادثة كربلاء مثلت منعطفا عاطفيا وأخلاقيا في كتابته التاريخية.
ينتمي نص الطبري لحادثة كربلاء لما يصفه الباحث بأدب المقاتل، وهو لون من الأدب تشكل أكثر ما تشكل في الأوساط الشيعية، وأصبح ضمن سرديات الهوية للجماعة المضطهدة والمظلومة، والذي سيبلغ ذروته في القرن الرابع الهجري مع مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، قبل أن يتراجع هذا اللون من الأدب وينتشر في اللغات الأخرى المتصلة بالبيئة الإسلامية. يستند النص الكربلائي عند الطبري في جانب منه على الشفاهيات، إلى جانب الكتب المدونة، وفي مقدمتها مقتل الحسين لأبي مخنف، الكتاب المفقود، والذي سيجد الطريق إليه من خلال كتاب آخر بذات الاسم لابن الكلبي، لتستحوذ مرويات أبي مخنف على النسبة الغالبة من تفاصيل المعركة التي سيعتمدها الطبري.
ستخضع الدراما الكربلائية إلى أفعال الانتقاء وإعادة البناء عند المؤرخين الأوائل، ومنهم الطبري، هكذا يقول الباحث، ويذكرنا بقصة عبيد الله بن الحر الجعفي، الذي لقي الحسين قبل المعركة واعتذر عن اللحاق به، وكيف اختلف ابن الكلبي والطبري في موضعة القصيدة التي يظهر فيها الندم عن عدم نصرة الحسين، حيث الإبدال بين القصائد لإضفاء وزن لها ضمن سياق الحكاية، غير أنه لا يريد لدراسته أن تقف عند هذه المحطة، فهو مشغول بالتحليل البنيوي، والذي سيأخذه لتحليل النص في ثيماته الرئيسية، مبتدأ بسيرة الماء، في اللقاء بين جماعة الحسين وجماعة الحر بن يزيد الرياحي، يقف عند شفرات الماء في سياق القوة داخل صراع الأضداد، فالماء هنا يقسم المكان بين الحسين والحر، ويذكرنا بالتوقيت الذي استأثر به الحسين للوقوف عند حدود الماء، والرمزية الاقتصادية للماء في صورة الفريقين، الحسين بفريقه الصغير قياسا بفريق الحر، والحسين بمعرفته العميقة بغاياته وأسباب خروجه، وجيش الحر الذي يجهل الحسين وقضيته، كل شيء كان يشير إلى حالة الانفصال بين الجماعتين، حتى كانت الصلاة التي جمعت الأضداد، حيث الصلاة تعيد تشكيل صورة الجماعة كما يقدمها الصدر الأول للإسلام، وتنبهنا لتصورات أهل الكوفة التي جاءت لتعارض السلطة السياسية للحسين وتعترف له بالسلطة الروحية والدينية.
خطب وحوارات الإمام الحسين تصبح المادة الأهم في اكتشاف بنية النص، وتحليل شفراتها، من خلال تحليل للإشارات الأبرز في كل خطبة وحوار، فالحسين في مواجهة الحر يجعل من الافتقار للماء قرينا للافتقار للمعرفة، فها هو يهبهم الماء كما يهبهم الطريق لمعرفة أسباب خروجه من المدينة، يذكرهم برسائل أهل الكوفة وعهودهم، والتي تنكر لها الكوفيون كإشارات أولى على الخيانة. في خطبة أخرى ينتقل الخطاب الحسيني لربط القبول به واتباعه كعنوان للتقوى، مذكرا إياهم بالارتباط النسبي مع النبي محمد، كعنوان للحقانية في السلطة، في قبال سلطة ظالمة هي السلطة الأموية، وهنا تصبح شفرة النسب عنوانا للتواجه بين السلطتين، سلطة شريعة وسلطة غير شرعية.
تحليل مطول للحقل الرمزي لما يسميه النص المرجعي، أي مشهد المواجهة مع جيش الحر، يقدمه الباحث المشغول برصد الثنائيات المتقابلة: الماء والدماء، الوفاء والغدر، الحوار والقتال، الحق والباطل، الحياة والموت،، وهي العناصر التي ستفعل فعلها في تحويل دراما الكربلاء في ذروة الشهادة إلى سويتها الأسطورية، وتخرج كربلاء من حدود الجغرافيا والتاريخ، إلى مسرح مفتوح للمواجهة بين الحق والباطل، وإلى الخلود الأبدي لشخصيات استحال موتها حياة.. هنا يستوقف الباحث الاستثمار في شفرة النسب ومفهوم ”الحرمة“ في الخطابات التالية لحادثة الحر، حيث الحسين يحرص على التذكير بموقعيته الروحية، وانتسابه وعائلته للنبي، تتراجع المرافعات المستندة للحق السياسي، لصالح خطاب يشدد على البعد الديني والاتصال بالنسب النبوي.
ثمة حضور رمزي كثيف للماء في دراما كربلاء، يبدأ من لحظات سابقة للمعركة، كحادثة موت المرافقين لمسلم بن عقيل، رسول الحسين، في طريقه للكوفة بسبب العطش، وكذلك في عطش مسلم بعد نقله لقصر الحاكم، وعزوفه عنه لاختلاطه بالدم، ويستمر طيلة أحداث كربلاء وصولا إلى منع الماء عن معسكر الحسين، ويشترك فيها الماء والدم ثانية، في قصة الرضيع الذي قدمه الحسين طالبا للماء قبل سفك دمه. بعدها يجري الباحث مقابلة بين توظيفات الماء في الحادثة وبين الدموع، فكأنما الماء الذي أريد بمنعه قتل الحسين وأصحابه، استحال دموعا لإطلاق الحياة ثانية لهذه الحادثة وتلك الأشخاص التي انساقت إلى إرادة الله، لتجعل من موتها الجسدي طريقا للإحياء الروحي للأمة.
هذه إطلالة على بعض ما حملته الدراسة، وهي طويلة، وقد جرى نشرها باللغة الفارسية في كتاب قبل أعوام قليلة، ولا علم لنا ما إذا كانت قد نالت حظها من الترجمة العربية، غير أن الباحث هيلين استمر في اهتماماته بهذه القضية، وقد أصدر بداية هذا العام كتابه الذي حمل عنوان The Karbala Story and Early Shi’ite Identity.