حين تثقلنا التفاصيل
ما الذي يمكن أن يصنعه بنا يوم عادي..؟ نبدأه بشيء من النيّة الحسنة، أو على الأقل نُجَمّل لأنفسنا ذلك، ثم نفتح نوافذنا للعالم عبر الشاشات. نتوضأ بنبض الإشعارات، ونتناول إفطارنا على مائدة الأخبار العاجلة، بينما يتسرّب إلينا الضجيج من كل زاوية، حيث نتعرض طَوال اليوم لِرَذاذٍ ناعم من الاستنزاف.. كلمة غير محسوبة من زميل، تعليقًا مرتجلًا طافحًا بالسطحية، أو تدوينة كُتبت على عجل ولم تُمحِّصها نية ولا مراجعة عقلية. أخبارًا سيئة نسمعها ولا نملك ردًّا عليها. نوايا مشوشة، ومهاترات لا تشبهنا.
ليس هناك من دراما عظيمة يمكن الوقوف عندها، لكنّ شيئًا فينا يتناقص على مهل، وكأن هذا «العادي» ينجح كل مرة في أن يُتلف شيئًا صغيرًا من دواخلنا. ثم في لحظة صمت.. إن سُمِح لنا بهذا الصمت، نشعر أننا مُتعبون، لا لسبب جسدي، بل لأن شيئًا في داخلنا صار «ثقيلاً».
إنه ليس ذنبًا صريحًا، ولا خطيئة واضحة، لكنه تلوّث ناعم.. تلوّث في النية، في اللسان، وفي القلب. تلوّث لا يُغسل بالكلام، ولا تزول آثاره بالنسيان.
في زمن بتنا نشعر فيه بالاختناق، صار التخلص من هذا التلوث تحدّيًا حقيقيًا. ليس لأننا لا نملك الوسائل، بل لأننا نسينا وجودها، أو تجاهلنا أثرها. تُحيط بنا وسائل اللهو أينما التفتنا، بينما وسائل الإصلاح تُطوى وتُركن في زاوية العادة.
أصبح المصلحون قلة، لا لأن الخير نَقَص، بل لأن الضجيج غطّى على نداء النور، وأصبح النقاء يبدو وكأنه شيء نادر، لا يقدر عليه إلا من «تحصّنوا»، ونحن لسنا منهم.
لكن الحقيقة ليست كذلك. الطريق إلى الطهارة ليس معقدا ولا في مكان ناءٍ.. إنه أقرب مما نظن..!
في خضم هذا كله، يأتي الوضوء. لا مجرد استعداد لصلاة، بل كفعل هدوء، كلمسة طُهر، كاستراحة قلب في منتصف الطريق. الوضوء ليس ماءً فقط. إنه فرصة لنُعيد ترتيب ما فسد في دواخلنا دون أن ندري. أن نقول كفى لكل ما علق بنا.
هلموا بنا نطهر أيدينا من صخب الحياة، ونغسل وجوهنا من تعب العيون، ونزكي رؤوسنا مما اختزنت من ضوضاء، ونمسح أقدامنا مما علق بها من وسخ الدنيا. هو طقس بسيط في ظاهره، لكنّه قرار داخلي بالتخفّف، بالتخلّي، بالتطهّر. قرارٌ بأن لا نسمح للأيام أن تُكدّس في داخلنا ما لا نريده، أن نستعيد نقاءنا بأبسط وسيلة، بأشدّها رحمة، ماء ونيّة.
خلال يوم واحد، تمنحنا الحياة فرص لا منتهية للوضوء، وكم نحن في حاجة ماسة إليها. فكما أننا لا ننتظر أن تتسخ أجسادنا لنغسلها، لا ينبغي أن ننتظر أوقات الصلاة حتى نتوضأ.. فقسوة القلوب والتعب الروحي هي الأخرى من موجبات التطهر، إذا صح التعبير.
في هذا الزمان العصيب من حياتنا، علينا كلما شعرنا أن فينا شيئًا لا يُفهم، أو ثقلًا لا يُفسَّر، أن نجدد وضوءنا. ليس لأننا مقبلين على صلاة، بل لأننا نبحث عن ذواتنا التي أضعناها بين التفاصيل.