مسؤولية الإنسان في صناعة العدالة
لا يسعني وأنا أقرأ مقال الدكتور توفيق السيف «جزيرة وسط محيط الشر» المنشور في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 17-7-2025 م إلا أن أتفق معه في نفي التصوّر السائد بأن الشر هو القوة الغالبة في هذا العالم، وفي تأكيده - عبر شواهد التاريخ والواقع - أن مساحة الخير أوسع، وإن لم تكن الأعلى صوتًا دائمًا. لكني أظن أن سؤالًا مهمًّا ينبغي أن يُطرح في هذا السياق، وهو ببساطة: وماذا بعد؟ ما الجدوى من التأكيد على أن الخير موجود، وأن العدالة ممكنة، إذا لم ننتقل بالحديث إلى دور الإنسان الفرد في تحقيق شيء من هذا المعنى؟
في اعتقادي، العدالة ليست مجرد فكرة مجرّدة أو شعار مثالي، بل هي قرار أخلاقي فردي يبدأ من الداخل، من ضمير الإنسان وتصرفاته اليومية. صحيح أن العدالة مفهوم جماعي ومؤسسي في كثير من تجلياتها، لكنها لا تنشأ من فراغ، بل تُبنى على سلوك الأفراد ومواقفهم. وهنا يبرز السؤال الجوهري: ما دوري كإنسان في صناعة العدالة؟ وهل لمجرد أن فكرة العدالة المطلقة تبدو بعيدة المنال، أُبرّر لنفسي أن أكون ظالمًا، أو أن أتنصّل من مسؤوليتي الأخلاقية؟! في تصوّري، ما لم يكن الإنسان واقعًا تحت قهرٍ يمنعه من أي اختيار، فإنه يمارس - بطريقٍ أو بأخرى - نوعًا من السلطة، سواء في العائلة، أو في المدرسة، أو في النادي الرياضي والثقافي، أو في غيرها من البيئات. أن يتسم الإنسان بالعدالة، يعني أن يُنصف الناس بمنحهم حقوقهم من جهة، وأن يُنصف نفسه أيضًا بعدم تجاوز حدوده من جهة أخرى. هذه الممارسة المستمرة للعدالة في الدائرة المحيطة بالفرد، أراها حالة مُعدية، تُحفّز الآخرين يومًا بعد يوم على الارتقاء بأخلاقهم وسلوكهم، ليصبحوا أكثر عدلًا وإنصافًا واحترامًا لبعضهم البعض. والعكس صحيح أيضًا؛ فالظلم حين يُمارَس يُنتج إنسانًا مثقلًا بالجراح النفسية، قد تدفعه هذه الجراح - غالبًا بلا وعي - إلى الانتقام من الأضعف منه. لهذا، حين نبحث عن مجتمع إنساني فاضل، ينبغي أن نجعل من العدالة سلوكًا طبيعيًا وداخليًا، يسعى الإنسان إلى ممارسته باستمرار، وإن لم يخلُ من التقصير أحيانًا. نحن لا نبني عدالةً مطلقة على هذه الأرض، لكننا - على الأقل - نقلّص من المساحات المظلمة التي يُخيم عليها الظلم.
أعتقد أن الاستطراد في الحديث عن العدالة بوصفها حلمًا بعيد المنال، قد يُولّد حالة من الإحباط تُثبّط الهمم وتُضعف الإرادة. إذ يدور في النفس حديثٌ صامت: ما جدوى الالتزام بالصلاح إذا لم يُحدث فرقًا؟ هذا التساؤل قد لا يدفع الإنسان إلى الظلم الصريح، لكنه يجرّه إلى اللامبالاة، وإلى التعامل مع العدالة كخيار هامشي لا ضرورة للانضباط بتفاصيله. وهكذا، يصبح الإحباط - دون أن نشعر - أحد أبرز معوّقات البناء الأخلاقي للفرد، وربما محفّزًا خفيًّا لاستمرار بعض مظاهر الظلم، حتى وإن كانت في حدّها الأدنى. إن مواجهة التشاؤم لا تكفي بمجرد تفنيده، بل لا بد من تحويل الشعور بالمسؤولية إلى سلوك يومي، يدعم القناعة بأن الخير ممكن، وأن العدالة - وإن لم تكتمل - يمكن بناؤها لبنةً لبنة، كلٌّ بحسب موقعه وقدرته.