آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 2:00 ص

سفينة الجنة

عماد آل عبيدان

إن كنت تبحث عن الجنّة، فلا ترفع رأسك للسماء… انظر تحت قدميك.

ليس لأن الجنة هناك…

بل لأنك، إن كنت ماشيًا في طريق الحسين، فأنت تمشي عليها بالفعل.

تكثر الحواجز، وتعلو فيه أصوات ”الأنا“ بأيامنا، ينشقّ طريقٌ لا تفهمه الخرائط،

ولا تحتسبه الأقمار الاصطناعية، ولا تحدده الجهات الأربع…

إنه طريق كربلاء.

الطريق الوحيد في الأرض الذي يبدأ من داخل القلب.

كلّ الذين يمشون، لا يُفتّشون عن مدينة…

بل يبحثون عن وجهة في قلوبهم.

ويكاد المرء أن يُقسم:

ليسوا هم من يسيرون… بل أرواحهم تسبقهم، تجرّ أجسادهم، وتهمس فيهم:

”إلى حيث الحبّ الخالص… إلى النداء الذي لم ينقطع منذ قرون.“

في كربلاء، لا تحتاج إلى حراسة ولا إثبات هوية…

تحتاج فقط إلى نية.

كلّ من يخدمك لا يعرف اسمك، لكنه يرى فيك ”ضيفًا شخصيًّا للإمام“.

”ما عندي إلا قلبي… تفضّل اجلس عليه.“

كتبها رجل فقير على لافتة صغيرة قرب خيمته.

وفي قرية نائية، وقف صبيّ في العاشرة، رافعًا كرتونة مكتوبًا عليها:

”إن تعبت… تعال استظلّ بي.“

قال لي وهو يبتسم:

”ما أقدر أقدّم شيء ثاني… بس أبغى أكون ظلّ الحسين.“

ما الذي يحدث؟

كيف تتغيّر فطرة الناس فجأة؟

وكأنّ السماء فتحت أبواب الجنّة على الأرض…

وتحوّلت كلّ الوجوه إلى مرايا تعكس نورًا لا يُرى، لكن يُشعَر.

الذين يمشون ليسوا ”مؤمنين عاديين“، ولا ”متدينين تقليديين“.

إنهم نُسخ معاصرة من أنصار كربلاء.

لا يركبون خيولاً، ولا يرفعون سيوفًا…

لكنهم يحملون نية الفداء، وشوقًا لا ينطفئ،

كلّ خطوةٍ منهم دعاءٌ حيّ،

وكلّ دمعةٍ منهم سلاح.

قيل يومًا إن ”المدينة الفاضلة“ لا تُوجد إلا في خيال الفلاسفة…

لكن كربلاء قالت غير ذلك.

" المدينة الفاضلة تُبنى في قلوبٍ مشت على الأرض حافية،

وزّعت ما لا تملك، وأطعمت من جاع،

وضمّدت من مشى مجروحًا… لا لتأخذ، بل لتُعطي. "

يا فلاسفة العالم…

هذه مدينتكم.

هؤلاء مواطنوها.

وهذا قانونها:

لا تؤذِ أحدًا، بل اخدم من سبقك.

ما سرّ هذه الأربعينية؟

أليست في العالم طرق أطول؟

ومسيرات أضخم؟

وأحداث أشدّ تنظيمًا؟

بلى…

لكنها المحبة فقط،

هي التي تصنع من الطرق جنانًا، ومن الغبار عطرًا.

في طريق الأربعين، تُدفن الأحقاد… وتُبعث الرحمة.

تغيب الألقاب، وتُستبدل بالأسماء الحسينية:

”يا زائر“

”يا ضيف الحسين“

”هلا بزوار أبو السجّاد“

لا تُسأل عن مذهبك، ولا لهجتك، ولا جواز سفرك، ولا حنسيتك…

كلّ خطوة تُطهّرك، وكلّ نظرة تحتضنك.

كل عام، حين تبدأ الأربعين،

يخفق قلب الأرض من جديد.

وكأن كلّ من سار يقول:

"يا صاحب الزمان… نحن هنا.

لم ننسَ الدمعة الأولى."

رأيت شابًا بوجه محترق وقدمه مجروحة…

سألته:

”لماذا لا تستريح؟“

قال وهو يبتسم وكأنه يُخبر بسرّ ملكوتي:

"أنا مستحي من الحسين…

ما خدمته يوم كربلاء، أخدمه في طريقي إليه."

وفي زاوية أخرى، امرأة عجوز، تقدّم تمرًا ملفوفًا في قماش قديم:

قالت:

"هذا زاد جدّي يوم مشى لزيارة الحسين…

قلت يمكن يجيه، ياخذ منه لقمة."

هل رأيت مشهدًا تتحوّل فيه الأجساد إلى مرايا للرحمة؟

الطفل خادم،

الفقير سخي،

العجوز مجدافٌ في سفينة النجاة.

لا لغة، لا حواجز…

فقط دمعةٌ… وقدمٌ تؤمن.

ومن عظيم الأسرار، أن من زار الحسين ، عارفًا بحقّه،

يُكتب له:

• ثواب ألف حجّة مقبولة،

• وألف شهيد،

• وغفران ما تقدم وما تأخر من ذنبه.

ليس لأنه قطع المسافة،

بل لأنه مشى بقلبه… وقدّم نفسه قبل قدميه.

كربلاء ليست قصة بكاها التاريخ…

بل امتحانٌ حيّ يُعطى كلّ عام.

فمن مشى لنفسه، عاد لنفسه.

ومن مشى للحسين، ركب سفينة لا تضل، ولا تغرق، ولا تتوقف.

فإن أردت أن تعرف قدرك…

انظر إلى نيّتك حين تمشي:

هل تسير لأنك مدعو؟

أم لأنك مُشتاق…

إلى وطنك الأول،

وخيمتك الأولى،

وإلى نداءٍ لا يزال يُتلى في أذن الزمان:

”هَلْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُنَا؟“

في طريق الحسين،

كلّ شيءٍ يضيء…

كلّ شيءٍ يُطهِّر…

كلّ شيءٍ يُبكيك… ثم يُطهّرك،

ثم يقول لك بهدوء:

"هنا النجاة…

هنا السفينة…

هنا الحسين."

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
أمجد رضي
[ العوامية ]: 26 / 7 / 2025م - 12:24 ص
هذا النص مو مقال هذا دعاء مكتوب بحبر القلب. كل سطر يقطر حنين ويوقظ شيئا دفينا فينا. يا عماد مقالك يذكرنا ليش نحب الأربعين… لأن فيها تختلط الأرض بالسماء وتسقط الحواجز بين الناس
2
علاء الماجد
26 / 7 / 2025م - 12:24 ص
“بس أبغى أكون ظل الحسين”… عبارات بسيطة لكن تحمل عمق يتعدى كل كتب الفلسفة
3
عماد آل عبيدان
26 / 7 / 2025م - 12:45 م
أ.أمجد،

صدقتَ يا رفيق الوجدان، هو ليس مقالًا فقط، بل حكاية قلبٍ مشى قبل أن تَخطو الأقدام، دعاءٌ كما قلت، كُتب لا بالحبر بل بالحنين.

الأربعين، كما أشرت، هي النقطة التي تلتقي فيها الأرواح قبل الأجساد، وتُمحى فيها الفواصل بين الناس والسماء.
هي اللحظة التي يناديك فيها شيء داخلك: امشِ… ولو كنتَ مُنهكًا، فهناك من ينتظرك بالبكاء، لا بالسؤال.

ممتنّ لقراءتك التي لم تمرّ… بل وقفت، وتنفّست، واحتضنت.
دمت صديقًا للوجدان،
ودمت ممن يُحبّون الأربعين… لا بالمشهد، بل بالمعنى.
4
عماد آل عبيدان
26 / 7 / 2025م - 12:47 م
أ. علاء،
كلماتك لم تُعلّق على العبارة فحسب… بل أعدتَ لها الحياة من جديد.

نعم،
“بس أبغى أكون ظلّ الحسين”…
ليست جملة، بل عقيدة تُقال بعفوية، لكنها أعمق من كل نظريات الوجود.
طفلٌ قالها، لكن فيها من النُضج الروحي ما لا تُدركه فلسفات المجلدات.

هي اختصارٌ لمعنى:
أن تكون خادمًا دون شرط،
أن تُحب دون مقابل،
أن تكون نورًا حتى وأنت في الظل.

ممتنّ لإحساسك… ولعينك التي ترى البسيط عمقًا، لا سطحًا.
دمت ظلاً نقيًا لكل فكرة عظيمة