رعاة ووكلاء
مرت البشرية بحروب متعددة منذ فجر التاريخ، واشهرها هذه الحروب: الحربان العالميتان الأولى والثانية، حيث ذهب بسبب هاتين الحربين ما لا يقل عن تسعين مليون قتيل. بالطبع، هذه الحروب وقعت في بلادٍ تدَّعي الحضارة والتقدّم ومراعاة حقوق الإنسان. في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، بعد الملايين التي ذهبت أرواحهم، والدمار الشامل، والخسائر المادية، وتدهور الاقتصاد، وتدمير البنية التحتية، لم يكتفِ ذلك العالم من أطماعه واستمرار توجهاته في وقف مسلسل الحروب المدمرة، بل أتبعت فكرة حرب أخرى بدلًا من الحروب المباشرة التي تذهب بسببها ملايين القتلى من بلدانهم.
هذه الحرب تُسمّى «الحرب الباردة». ابتدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية بين الكتلة الغربية والشرقية، واستمرت حتى انهيار وتفكّك وهزيمة الكتلة الشرقية. منذ التسعينات، ووقت السقوط، بدأت محاولات الكتلة الشرقية التعافي، ولملمة قواها، والوقوف ثانية. مع بروز قوى عالمية وتكتلات جديدة، تعود «الحرب الباردة» بثوب جديد وبشراسة أكبر وأفكار جهنمية تزيد أحوال العالم سوءًا.
إن لم يمت بالسيف ماتَ بغيرِه
تعددت الأسبابُ، والموتُ واحدٌ
«الحرب الباردة» السابقة والجديدة فكرتها الاستغناء عن الحروب المباشرة بين الأقطاب الكبرى، وما تكلفه من هلاك أعداد كبيرة وعتاد كثير، إلى إيجاد وكلاء نيابة عنهم، تُسمّى «حروبًا بالوكالة». يبقى صراعهم الأيديولوجي والعسكري بعيدًا عنهم. فالفكر المهيمن لا يزال هو الفاعل، وعدم ترك البشرية تعيش بسلام، وتنعم بالأمن والأمان، وتحظى بالاستقرار. الأقطاب الكبرى تخرج من باب واحد لتدخل من نوافذ متعددة، أكثر قسوةً وأشدّ وحشيةً، بطرق ملتوية وأفكار جهنمية. تعرف أن حربهم المباشرة ستُكلفهم ما لا طاقة لهم به، بما يملكون من الأسلحة النووية والبيولوجية وغيرها من الأسلحة الفتاكة التي باستطاعتها تدمير الأرض عشرات المرات. تقود كل ذلك أطماع توسعية، وهيمنة مقيتةٌ بلا أخلاقٍ، ولا وازعٍ دينيٍّ، أو خوفٍ من المساءلة القانونية، في ظلّ عجز وسيطرة القوى الكبرى على مقاليد الهيئات الدولية والحقوقية المختصة بمحاسبة ومكافحة الحروب.
كانت الحروب بالوكالة حاضرة بقوة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. اليوم تعيش البشرية في قلق، وهذا هو قدرها في ظلّ الصراعات والحروب العابرة للقارات، تجنّبًا لخسارة الأرواح والعتاد وإخلاء المسؤولية. برز دور «الحرب بالوكالة» من جديد، وهي قديمة وتطوّرت مع تطوّر الزمان والسياسات والتوجهات والتطلعات والفكر المهيمن. وهي تقوم على تمويلٌ من أحد الأقطاب، حيثُ يقدم أموالًا وسلاحًا ودعمًا لوجستيًا لوكلاء يخدمون أجنداتهم على أرضٍ بعيدة عنهم جغرافيًّا. تمثل مليشياتَ منطقةً أو قوى سياسية أو اقتصادية نافذة، أو تغذّي صراعات عرقيّة أو مذهبية أو قومية لتحقيق مصالح خاصة، تقوض الاستقرار وتحقق أهدافًا استراتيجية وتوسعية، وتكون سيدة القرار، ورسم شكل الصراع في المكان والزمان ومستقبله في المكان المستهدف. لا تعترف بوكلائها ظاهرًا، وتمدّهم بالخفاء، مع محاولات خجولة، إذا سنحت الفرصة والضرورة، لإضفاء الشرعية الدولية على الوكلاء، وتنتقده ظاهرًا. تضعف جميع الأطراف المخالفة لتوجهاتها، وتبيّن اختلافها مع توجهاتهم، وتنتظر نتائج خدماته، ويبقون رهائن في يد تلك القوى بكل نفاق، وازدواجية في المعايير الأخلاقية والإنسانية. وفي بعض الأحيان يتم الاختلاف بين الرعاة والوكلاء، لأن ما يربطهم مصالح آنية، والرعاة دائمًا ما يتركون وكلاءهم بعد إتمام المصلحة منهم وانتهاء فاعليتهم؛ وهذا ما حدث في كثير من مواقع الصراعات، سواء بين دولة وأخرى أو صراعات قوى داخلية تؤلب فريقًا ضد الآخر، باستخدام التدخل باسمِ حقوق الإنسان أو حفظ الأقليات وغيرها من المصطلحات البراقة في ظاهرها خيرًا، وباطنها يكمن فيه الدمارُ والخرابُ. تجعل العالم معدوم الأمان، وبعيدًا عن السلام، ومجتمعاته هشة وضعيفة بسبب تلك الأفعال الماكرة والخبيثة.