من البيوت أسرار إلى القلوب جدران
هل أصبحنا نعيش واقعًا جديدًا من الخصوصيَّة المنعزلة؟
لا أتحدث هنا عن الغرباء؛ بل عن المقرَّبين... عن أهلٍ وأقارب قد يجمعنا معهم اسم العائلة أو حتَّى سقف واحد؛ لكن تفصلنا جدران من الصَّمت والتَّحفُّظ، وغياب الفضول الإيجابي.
سابقًا كنَّا نقول: ”البيوت أسرار“، واليوم يبدو أنَّ هذه الجملة قد تمددت إلى ما هو أبعد من حدودها المعقولة، حتَّى طالت روح التَّعاون والمساندة، سواء كانت ماليَّة أو معنويَّة.
فهل ما زال فينا متَّسع للثقة؟
أم أنَّ الخصوصيَّة باتت قناعًا لانكماشنا عن بعضنا البعض، وتخلينا عن واجب المشاركة الإنسانيَّة البسيطة؟
في السَّابق، كان يُنظر إلى الغريب - البعيد عن الأسرة اسمًا وقربًا - على أنَّه لا شأن له بمشاكلها ولا مكان له في أفراحها أو أتراحها. أمَّا اليوم، فقد أصبح بعض الأقارب الأقربين لا يختلف كثيرًا عن ذلك الغريب القديم؛ لا يعرف شيئًا عن أفراح أسرته، ولا يُدعى إلى أحزانها، ولا يُستشار في أزماتها. والمفارقة أنَّ هذا التَّباعد لا يكون دائمًا بسبب القريب نفسه؛ وإنَّما أحيانًا بسبب الأسرة ذاتها، التي اختارت أن تُغلق على نفسها أبوابها حتَّى في أشدِّ لحظات الحاجة.
مرَّة تقول: ”لا تُخرجوا مشاكلنا خارج البيت“ - رغم أنَّ الحديث ليس عن غرباء؛ بل عن أقرب الأقربين.
ومرَّة: ”لا تُخبروهم لئلا يظنُّوا بنا سوءًا، أو يتشفوا بما نحن فيه“، وربما الأسوأ: ”لا تطلبوا المساعدة، لعلهم يذكِّروننا بها لاحقًا!“
هذه التَّحفُّظات ليست وليدة فراغ؛ فكم من شخص حاول أن يبوح فانتهى مخذولًا، أو أن يطلب عونًا فعاد مثقلًا بالمنة والحرج بدل أن يُخفف عنه الحمل. ومع تكرار هذه التَّجارب، تولد ردَّة الفعل: عزلة اختيارية بحجَّة الخصوصيَّة؛ لكنَّها في حقيقتها خوف من الألم المتكرر. وحين تصبح الخصوصيَّة سلوكًا دائمًا، لا طارئًا، فإنَّها تتسلل بصمت إلى شكل العلاقة، فتُضعفها، وتحوّلها من تواصل حقيقي إلى وجود شكلي؛ فلا يعود القريب قريبًا؛ بل مجرَّد اسم في الهاتف، أو شخص يظهر في المناسبات من دون أن يعرف شيئًا عن تفاصيل حياتك أو عن صراعاتك الدَّاخليَّة.
وتتحوَّل الرَّوابط الأسريَّة إلى واجهات مجاملة، بينما تغيب روح المشاركة الحقيقيَّة التي كانت تُسندنا في السَّابق.
والأصعب من ذلك أنَّ هذه العزلة تبدأ تُورّث داخل الأسرة نفسها؛ فالأبناء الذين يرون أهلهم يعيشون بصمت، ولا يطلبون عونًا من أحد، سيتربُّون على الكتمان المفرط والاعتماد المنفصل، وربما يفقدون تلقائيًا شعور الانتماء لمجموعة تدعمهم. وهكذا، تتحوَّل ”الخصوصيَّة“ من فضيلة إلى حاجز نفسي واجتماعي، يفتح المجال لوحدة ثقيلة تُتعب الرُّوح، وتُغلق أبواب المساندة.
هذه العزلة التي نمارسها - أو تُمارس علينا - لا تمرّ من دون أثر؛ فمع الوقت، تتسلل إلى النَّفس مشاعر الوحدة، والخذلان، وفقدان الأمان العاطفي، وقد تتطوَّر إلى أمراض نفسيَّة صامتة كالاكتئاب أو القلق الاجتماعي. وقد يُصاب البعض بحالة من الجمود العاطفي، فلا يعود يثق بأحد، ولا يبوح لأحد، ولا يطلب من أحد.
والأصعب حين تحدث المفارقة بأن يطلب الإنسان العون من غريب تمامًا - صديق في العمل، أو جار، أو حتَّى متابع في العالم الرَّقمي - فيجده أسرع وأصدق في تجاوبه من أقربائه.
حينها، تولد المقارنة القاسية:
”نصرني الغريب، وخذلني القريب“. وهنا يبدأ الانفصال الحقيقي، لا الجسدي فقط؛ بل النَّفسي والشُّعوري... وتتسع الفجوة، وتكبر، حتَّى يصبح الرجوع أصعب من الانسحاب.
في الماضي، كان قرار الفرد أو الأسرة بالهجرة خارج الوطن يُقابل بالكثير من التردد، وأحيانًا بالخوف الحقيقي... ليس من الغربة فقط؛ بل من الانفصال عن العائلة والجذور؛ فقد كان البعد عن الأهل هاجسًا ثقيلًا لا يُتخذ إلَّا مضطرًا، وأمَّا اليوم، فقد بات هذا القرار أكثر سهولة، وأقل حساسية عاطفيَّة، ليس لأنَّ الغربة أصبحت سهلة؛ وإنَّما لأنَّ مفهوم القرب نفسه قد تغيَّر.
وقِس على ذلك حين يقرر أحدهم الانتقال للعيش في مدينة أخرى داخل نفس الوطن... أصبح الأمر لا يتطلب الكثير من التمهيد، ولا يُواجه بذات القلق السابق. ولست هنا أُخطِّئ هذا الانتقال، فلكلٍّ ظروفه وخياراته؛ لكننا فقط نرصد كيف تغيَّرت الحياة الخاصة، وكيف باتت الرَّوابط تُفكّ بسهولة... لأنَّ عمقها لم يعد كما كان.
نحن لا ندعو لكشف الأسرار، ولا لكسر جدران الخصوصيَّة؛ فهي حق لكلِّ إنسان ولكلِّ أسرة.
لكن حين تتحوَّل هذه الخصوصيَّة إلى عزلة مزمنة، وتتحوَّل البيوت إلى جزرٍ منفصلة، والقربى إلى مجرّد لقبٍ اجتماعي…
فقد آن الأوان أن نُراجع أنفسنا، ونسألها ماذا نحتاج اليوم؟
والجواب: التَّوازن هو ما نحتاجه اليوم؛ فلا إفراط في البوح، ولا تفريط في الانغلاق وكذلك، لا اعتمادًا مفرطًا على الآخرين، ولا انعزالًا يجعلنا نحمل أوجاعنا وحدنا حتَّى ننهار.
كم من إنسانٍ أنهكه الهمُّ أو أودى به المرض بسبب مشكلةٍ أسريَّة، ولم تكن المشكلة بحدِّ ذاتها هي ما سبَّب له الألم؛ وإنَّما ثقلها على قلبه وانعدام من يُعينه على حملها؛ ولذلك، فإنَّ الحفاظ على الصحة النفسيَّة والعلاقات السَّليمة يبدأ من إعادة الثِّقة داخل دوائرنا الصغيرة: العائلة، والأقارب، والأصدقاء. ثمَّ إننا نحتاج أن نعيد تعريف ”القرب“ و”المشاركة“ بالسؤال، والمساندة، والاحترام المتبادل للخصوصيَّة، وليس بالكلام فقط؛ فالقلوب حين تُهمل، تبرد... وإن بَرَدَت، صَعُب إحياؤها.