آخر تحديث: 23 / 7 / 2025م - 8:02 م

لهاثُ الدوبامين وخدعةُ اللذّة

عماد آل عبيدان

الإنسان كائن لم يعد يبحث عن الحياة فقط، بل عن لحظة.

لم نعد نطلب السعادة كغاية، بل نلهث خلف ومضات متقطعة من لذة عابرة. وكلما اقتربنا من واحدة، تبخرت. فما الذي تغيّر؟ من الذي سرق استقرار الروح وعمق المعنى؟

إنها لعبة الدوبامين الكبرى؛ اللعبة التي نلعبها جميعاً دون أن نعي أننا الخاسر الوحيد.

التحول من إنسان الوعي إلى إنسان التفاعل:

في أزمنة التأمل والصبر، كانت السعادة تُولد في المساحات الهادئة بين الجهد والإنجاز، بين الانتظار والتحقق.

أما اليوم، فنحن نعيش عصر ”اللحظة الجاهزة“، حيث نضغط زراً، فنحصل على لذّة، نُنزّل تطبيقاً فنُشبع احتياجاً وهمياً، نشاهد مقطعاً فينزل على قلوبنا شيءٌ يشبه الطمأنينة، لكنه لا يدوم.

ما الذي يحدث هنا؟ إنه الدوبامين… الناقل العصبي المسؤول عن شعور المكافأة والتحفيز، والذي يعمل كمرسال بين خلايا الدماغ حين يشعر الإنسان بلذّة أو إنجاز.

لكن في العصر الحديث، ارتبط الدوبامين بالإدمان السلوكي، لأن كثرة التحفيز «مثل الهاتف، الألعاب، وسائل التواصل» تُفرزه بشكل مفرط، مما يجعل الإنسان يطلب المزيد بشكل لا واعٍ ويشعر بالفراغ في حال غيابه.

الدوبامين: حين يتحوّل الحافز إلى قيد:

الدوبامين ليس عدواً، بل هو هبة من الله خُلقت لتدفعنا نحو العمل والبناء والإنجاز.

لكن هذه الهبة أصبحت لعنة حين دخلت إلى سوق الاستهلاك السريع.

تخيل هذا المشهد:

تفتح هاتفك، ترى إشعاراً من شخص يهمك، فيرتفع مستوى الدوبامين في دماغك. تشعر بلذّة خفيفة، بانتعاش لحظي. تفتح الرسالة، ترد، وتنخفض المتعة. لكن دماغك سجّل: ”الإشعارات = متعة“.

فتبدأ بالعودة للهاتف مرة تلو أخرى، ليس حبّاً في الرسالة، بل رغبة في تكرار الدفعة الكيميائية الصغيرة. ومع الوقت، تفقد السيطرة دون أن تدرك، ويبدأ الإدمان السلوكي.

هكذا تُسحب أدمغتنا منّا على مراحل:

• نطلب المتعة.

• نحصل عليها بسرعة.

• لا تكفينا.

• نطلب المزيد.

• نُرهق… ثم نشعر بالفراغ.

وأخطر ما يغذي هذا النمط من التعلّق غير الواعي هو مقاطع الريلز القصيرة «Short Reels» التي انتشرت على كل منصة.

فهي لا تمنح الدماغ فرصة للتركيز أو التمهّل، بل تَغرسه في دوامة من الانتقالات السريعة، والانفعالات الفورية، دون أي بناء معرفي حقيقي أو تدرج عاطفي متزن.

وهكذا يُبرمج العقل ليطلب التنقّل السريع بدلاً من التعمق، ويُصاب الجسد بالتيقّظ المستمر، وتضعف قدرة النفس على الاستقرار والصبر، لتدخل في حلقة متصلة من القلق والإرهاق الذهني.

إنه جوعٌ لا يشبع، شبيه بما وصفه الله في كتابه:

﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أو تَتْرُكْهُ يَلْهَث [الأعراف: 176]

إنه اللهاث الذي لا يتوقف، سواء أعطيت النفس ما تشتهي، أو منعتها. لأن النفس إذا تعودت على التحفيز اللحظي، عطِشت له دائماً، ونسيت طعم السكون.

علاقات في مهبّ التحفيز اللحظي:

العلاقات العميقة لم تعد تُبنى كما في السابق.

لا وقت للمكاشفة، ولا صبر على الخلاف، ولا رغبة في النضج.

كل شيء مؤقت، وكل شيء قابل للاستبدال.

لقد أصبحنا نحب عبر الإشعارات، ونفتقد عبر الرموز، ونحزن عبر ”ستوري“، ونفرح عبر قلبٍ صغير أحمر.

لقد استبدلنا العمق بالسرعة، والصبر بالرد السريع، والمشاعر الحقيقية بردود فعل آنية.

فكيف تنشأ الروابط العميقة؟

كيف تتكوّن الحميمية؟

كيف نُشفى من الوحدة إذا كنا لا نجلس مع أحد دون أن ننظر في هواتفنا كل دقيقتين؟

كيف نسمع الآخر، ونلمس قلبه، ونحن لا نسمع حتى أنفسنا؟

الروح بين التشتت والسكينة:

الروح التي خُلقت لتسكن، لا تقوى على العيش في ضجيج التحفيز المستمر.

لقد فقدت البشرية جزءاً من هدوئها حين أصبحت الحياة أشبه بسلسلة من المثيرات المتلاحقة.

ما عاد للصمت جمال، ولا للتأمل مكان، ولا للبطء قبول.

لكننا ننسى أن بعض الشفاء لا يحدث إلا في الصمت.

أن بعض النضج لا يُولد إلا من الألم، وبعض الحكمة لا تأتي إلا من الانتظار.

ومع تدفّق مئات المقاطع القصيرة يوميًا، تقلصت مساحة التأمل، وضعُف الحضور.

فكيف يمكن لعقلٍ شُحن بمئة مشهد عابر في عشر دقائق أن يصغي لنفسه أو للآخر؟

تتآكل القدرة على التعمّق شيئًا فشيئًا، وتتشوّه الصورة الداخلية للزمن، حتى يظن الإنسان أن كل شيء يجب أن يحدث ”الآن“، وإلا فلا جدوى من انتظاره.

يقول تعالى:

﴿فاذكروني أذكركم [البقرة: 152]

في هذا الذكر طمأنينة. في هذا الحضور عودة. في هذا التوقف عن اللهاث… حياة.

الصيام الدوباميني: العودة إلى التوازن النفسي:

الصيام الدوباميني ليس تركاً دائماً للملذّات، بل هو استراحة واعية منها.

هو أن تُنظّم علاقتك بالأشياء التي تفرز الدوبامين لديك.

أن تتوقف عن المحفزات السريعة لفترة، حتى تعيد ضبط دماغك، وتُدرّب روحك على الصبر، وعقلك على التركيز.

ابدأ بيومٍ دون هاتف.

اقرأ كتاباً دون أن تقطعك إشعارات.

اجلس مع من تحب، وأنصت.

صلِّ ببطء.

اذهب إلى الطبيعة، وامشِ بلا هدف… فقط امشِ.

ستكتشف أن المتعة الحقيقية ليست في كمية الدوبامين، بل في جودة التجربة.

وأن السعادة ليست في الانفعال اللحظي، بل في السلام الداخلي.

همسة أخيرة: السعادة لا تُمنح، بل تُبنى

لقد آن أوان الصحوة.

أن نستعيد سيادتنا على أدمغتنا، أن نسترجع الهدوء من بين زحام وأنقاض الضجيج.

أن نُحب بصدق، ونعيش ببطء، ونتأمل بعمق.

أن نتوقف عن اللهاث خلف لحظة… ونبدأ في بناء حياة.

السعادة لا تُشترى… السعادة تُزرع.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
نادر عبدالله الشيخ
23 / 7 / 2025م - 2:52 م
مقال ثري لكني تمنيت لو تناول الكاتب الحلول بشكل أوسع خصوصا على مستوى المؤسسات التربوية. مشكلة اللهاث وراء اللذة لا تخص الأفراد فقط بل هي أيضا نتيجة لغياب نماذج التعليم العميق في المدارس.
2
رُبى سليس
23 / 7 / 2025م - 4:44 م
فعلا تأثير الريلز والمحتوى القصير مو طبيعي! الكاتب عبر عن أثرها بدقة وخصوصا لما وصفها بأنها “دوامة لا تعطي مجال للتأمل”.