آخر تحديث: 29 / 7 / 2025م - 2:00 ص

ندبة الرحمة في قلب الإنسان

نازك الخنيزي

في المدن المكتظة بالحكايات، وعلى أرصفةٍ صلبةٍ من فرط ما جفّ فيها العطف،

يمضي الإنسان متكئًا على وهمٍ قديم:

أنه وُلد رحيمًا.

يزخرف اسمه بياء النسب، فيُصبح ”إنسانًا“،

ثم يبني فوق هذه التسمية تماثيل من الشِعارات،

ويُغنّي لها كأنه يصدّقها.

لكن هل يولد الإنسان رحيمًا؟

ربما يولد هشًّا، والهشاشة تشبه الرحمة في مظهرها،

لكنها لا تُشبهها في الوعي.

الرضيع لا يَرحم، بل يطلب.

الطفل لا يُشفق، بل يخاف.

أما الكبار، فكثيرًا ما يُشهرون ”الرحمة“ كما يُشهرون بطاقة تعريف،

ليعبُروا بها من نظرة الآخر… لا من ضميرهم.

الرحمة، في معظم تجلّياتها، ليست فطرة… بل ندبة.

لا تنمو من الغريزة، بل من الخسارة.

لا تنبع من التكوين، بل من التفتّت.

هي أثرٌ يتركه الوجع على القلب، فيقرّر صاحبه أن يُبطئ يده حين يُؤذي،

أن يُمهل حكمه،

أن يرى خلف الصمت مَن لا يملك قولًا، ولا دفاعًا، ولا سندًا.

نحن لا نولد رحماء، بل نتعلّم الرحمة على مهلٍ، كلما اقتربنا من الحافة.

نقرأها في عيون أمٍّ تقاسمت جرعة الدواء مع طفلها،

وفي يدٍ تغطّي وجه ميت صغير… لا لتُخفِي، بل لتحفظ ما تبقى من الكرامة.

نراها في امرأةٍ تبيع خاتم زفافها لتُنقذ طفلة لا تعرفها،

وفي عجوزٍ يربّت على ظهر غريبٍ منهار في محطة لا ينتظر فيها أحد.

لكننا نراها، أيضًا، وهي تُخنق في المؤتمرات،

وتُموّه في لغةٍ ناعمةٍ تخفي القسوة داخل البروتوكول.

في غزة، مثلًا، لا يموت الأطفال لأن الطعام نَفد،

بل لأن العالم قرّر أن يُغلق الطريق إليه.

الموت ليس قَدَرًا، بل اختيارٌ باردٌ جرى توقيعه خلف أبواب مغلقة.

الرحمة لا تغيب لأننا فقدناها، بل لأننا أجّلناها عن عمد.

أصعب ما في هذا العالم ليس الجريمة،

بل كيف تُقدَّم… كيف تُلمّع…

كيف تُروى على الشاشة كأنها ضرر جانبي، أو ردّ مبرر، أو خسارة محسوبة.

تُحرّف المفردات، تُنتقى الصور،

فيغدو القاتل ”قوةً معتدلة“،

ويُوصَف الجائع بأنه ”طرف متأثر بالوضع الإنساني“.

لكن بين الحشود الصامتة، ثمّة من لا يتواطأ.

لا لأنهم ملائكة، بل لأنهم تمرّدوا على الاعتياد.

رفضوا أن تصير القسوة هي الوضع الطبيعي.

اختاروا أن يُرهقوا أنفسهم بالإنصات،

أن لا يُسرعوا الحكم،

أن يمدّوا يدًا، لا لأنهم قادرون، بل لأنهم لا يحتملون عدم فعل ذلك.

الرحمة ليست فضيلة تُعلّق على الجدران،

بل موقفٌ يُؤخذ وسط الركام.

ليست هدية تولد مع الجينات،

بل ندبة قديمة في قلب الإنسان، لا تُشفى… لكن يمكن أن نُمسّد بها وجع العالم.

فأن تكون رحيمًا،

هو أن لا تغدو الذئب… حتى حين يُتاح لك ذلك.

هو أن تمدّ يدك

لظلٍّ كان على وشك الاحتراق،

ثم تمضي دون أن تنتظر شكرًا… أو خبرًا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
ماهر كاظم الصغير
[ صفوى ]: 23 / 7 / 2025م - 2:42 م
احنا نردد إن الإنسانية بخير بس لما نشوف أفعال الناس وقت الأزمات نعرف إن الرحمة تحتاج تربية أكثر من التنظير.
2
سكينة نصيف
23 / 7 / 2025م - 3:57 م
الكاتبة صاغت سطورا تكتب بالدم لا بالحبر خصوصا حين قالت: “الرحمة لا تغيب لأننا فقدناها بل لأننا أجلناها عن عمد.” في زمن التبرير المؤسسي للجرائم هذا الصوت مهم جدا.