ذاكرة الطفولة ليست للبيع.. حين يتحول الفرح إلى عبء
كان يُفترض أن تكون لحظة عابرة، ذكرى صغيرة على هامش بداية الطريق، مجرد مشهد طفولي بسيط، طفل يلوح بيده الصغيرة، يبتسم بكامل براءته للكاميرا، تُصفق له أمه والفرح يغمر قلبها، ويصافحه والده بفخر خفي، لكن شيئاً ما في هذا المشهد تغير، شيئاً جعل تلك البراءة تختفي خلف عدسات تصوير احترافية، وصالات فخمة، ولباس تخرج لا يقل تكلفة عن خياطة ثوب أو بدلة رسمية، وكعكة ضخمة لم يُدرك الطفل حتى سبب وجودها.
تحولت حفلات تخرج أطفال الروضة، والمدارس بشكل عام، ويا للمفارقة من لحظات عفوية إلى مشاريع تجارية مصغرة، يُفرض على أولياء الأمور دفع مبالغ كبيرة لا معنى لها، ويُقحم الطفل في طقوس لا يفهمها، وكأن البهجة لا تكتمل إلا بعقد اتفاق غير معلن بين المدرسة وأحد منظمي الحفلات، تُحدد فيه الأسعار وتُوزع فيه الأدوار، لقد صارت البراءة تُسوق كمنتج.
تلقيت فكرة هذا المقال من الصديق العزيز الأستاذ صالح العمير ”أبا باسل“ الذي عبر بصوته عن وجع مكتوم يعيشه كثير من أولياء الأمور، كتب بنبرة المُصلح المجتمعي الغيور، مناشداً الروضات والجمعيات الخيرية ولجان التنمية أن يوقفوا هذه الظاهرة المرهقة التي تفتك بجيوب الأهالي، وتسيء لمفهوم التربية الحقيقي، قالها ببساطة وعقلانية، ”أوقفوا حفلات التخرج، التي تُكلف أولياء الأمور مبالغ باهظة“ لم تكن مجرد شكوى بل كانت صرخة باسم الأُسر التي سُلب منها حق الرفض، وفُرض عليها واقع لا ترضاه.
تأملوا معي هذا المشهد المتكرر، طفل في الرابعة أو الخامسة من العمر يُطلب من أهله دفع 300 ريال مقابل لباس تخرج، لن يستخدمه مرة أخرى و 200 ريال لجلسة التصوير لا يفهم الطفل سياقها، ناهيك عن مبلغ آخر لتأجير قاعة أو شراء كعكة باسم الخريج، وإحضار ديكور وتصاميم تحمل شعار التخرج، أليست هذه المسرحية التي لا يفقه الطفل نصفها عبئاً لا مبرر له؟ أليست لحظة يُفترض أن تكون بَسيِطة قد تحولت إلى استنزاف مادي ونفسي؟.
أخبرني صديق ذات مرة أن زوجته جلست تبكي بصمتٍ في زاوية غرفتها، بعدما عَلِمت أن ابنتهما ستُستثنى من الحفل لأنها لم تدفع رُسوم التخرج، وقد كان قد استَخدم ما تبقى من الراتب في سداد فاتورة الكهرباء المتأخرة، ماذا نقول لطفلة ترى زميلاتها يَلبَسن الرداء ويُغنين، بينما يُقال لها، أنتِ لستِ مُشاركة لأن أُمك لم تدفع؟ أي درس تربوي نزرعه هنا. وأي فرح نُهديه لها؟.
نحن لا نقف ضد الفرح ولا نُحارب البهجة، بل إن الفرح من أجمل معاني الحياة، لكننا نسأل، متى أصبح الفرح يُقاس بالفواتير، متى اختُزلت السعادة في الديكور وتحولت البراءة إلى استعراض، ولماذا نرهن الذكريات الطفولية باتفاق اجتماعي يُرغم الأهل على مجاراة المظاهر حتى لا يُتهموا بالتقصير؟.
أليست الروضة هي المكان الذي يتعلم فيه الطفل أبجديات الحياة، فيها يَكتشف المُشاركة ويُربى على التواضع ويبدأ مشوار الانتماء، كيف نَغرس هذه القيِم إذا كانت أول تجربة له مع النجاح مُرتبطة بقدرة أسرته على دفع المال؟.
وزير التعليم في خطوة موفقة منع حَفلات التَخرج في المدارس النظامية، إدراكاً لما تسببه من إنهاك وإِسراف لا طائل منه، فهل نُصر نحن على أن نُعيد الخطأ في صورة أخرى، لماذا لا تلتزم الروضات والجمعيات الخيرية، التي يُفترض أن تكون حائط صد للفوارق الطبقية، بهذا التوجه، ولماذا تُكرس هذه الجهات نفسها ثقافة، من يدفع يَفرح؟.
الاحتفاء لا يعني التكلف، يكفي أن يجتمع الأطفال في فصلهم، أن توزع عليهم الحلوى من يد معلمتهم، أن يرفعوا ورقة شهادة التخرج، أن تُلتقط صورة جماعية بابتسامة صادقة، هذه لحظات تصنع الذكرى، وتُخلد في القلب، وتُخبر الطفل أنه محبوب، لا لِما يلبس بل لما هو عليه.
لقد أصبحنا بحاجة إلى وعي أكثر من حاجتنا إلى قوانين، وعي يجعل كل أب وأم قادرين على قول ”لا“ حين يكون الرفض هو الموقف الأصلح، وعي يدرك أن التربية ليست استعراضاً خارجياً، بل بناء داخلياً يتشكل بالحُب والصدق والبساطة، فلنُعد الفرح إلى حجمه الطبيعي ولنُحافظ على البراءة في مكانها الصحيح، ولنُعلم أبناءنا أن البهجة لا تُشترى بل تُعاش، تُعاش مع من نحب وبما نُخلده في أرواحنا، لا بما نُزينه في الصور.
لا يسعني إلا أن أقول بكل امتنان، شكراً أبا باسل لأنك كنت صوتاً عاقلاً في زمن يركض خلف الصور وينسى الجوهر، كتبت ما عجز كثيرون عن البوح به، ولا مست هماً ظل يتوارى خلف هشتاقات التخرج البراقة، فلعلك كنت بداية صوت نرجو أن يسمعه الجميع قبل أن يُثقل هذا العبء المزيد من الأسر، هل نربي أبناءنا على الفرح، أم على ثمن الفرح، وهل نمنحهم ذكريات جميلة أم فواتير معلقة.