وجعٌ لا يُقال..
في كلّ عام، وعندما يقترب محرّم، كان أبو هاشم يضع تقويمه على رفّ خاص، كأنّه يعلّقه على جدار الروح لا الجدار. رجل ستيني، يعرفه أهل الحيّ بلهجته البسيطة، وشاربه الأبيض، وجلسته الثابتة في مجلس حسينيّ لا يتبدّل. كان يأتي باكرًا، يجلس في الزاوية، يحني رأسه قليلًا، لا يتكلّم كثيرًا، لكن عينيه تسبقان كلّ دمعة.
في إحدى الليالي، وبعد مجلسٍ اهتزّت فيه القلوب على صوت الخطيب وهو يروي العطش والرمضاء والفاجعة، اقترب منه شابٌ لم يألف وجهه، وسأله ببراءة لا تخلو من جفاف:
- ”عمّي، كل سنة تحضر، وتبكي بحرقة… ما الجديد؟ أليست القصة معروفة؟ أليس ما جرى قد جرى؟“
ابتسم أبو هاشم، لكن ابتسامته لم تكن من تلك التي تتسع، بل من التي تُطفئ السؤال. نظر إليه طويلًا، كأنه لا يجيبه هو، بل يجيب من خلفه. ثم قال بهدوء غريب:
- ”هل تقرأ وتعيد قراءة الفاتحة لوالدك المتوفّى؟“
قال الشاب: ”طبعًا… كل يوم“
قال أبو هاشم وهو يشدّ عباءته على كتفه: ”مع أن القصة معروفة؟“
وصمت الشاب. وصمت المكان.
ذاك المشهد البسيط لم ينسه أحد، لكنّه لم يُكتب في صحيفة، ولا ظهر في مقطع، لأنه من تلك الحكايات التي تمشي في الحياة دون ضجيج… لكنها تغيّر شيئًا فينا.
في الطرف الآخر من البلدة، كانت سلوى - فتاة في العشرين من عمرها - تجلس مع صديقتها في مقهى نسائي بسيط، بين ضحكات وقهوة وحكايات عن السفر والمكياج وأخبار مختلطة ومنوعة.
قالت صديقتها: ”تصدقين؟ أمس رحت مجلس حسيني، وكان في وحدة تبكي بشكل غريب… مرّة! كأن الحسين ولدها!“
ضحكت سلوى وقالت: ”الله يهديها، دراما زايدة.“
لكن ما لم تقله سلوى، هو أنها تلك الليلة - وبعد أن نام الجميع - دخلت على حساب قديم في هاتفها، حسابها في مدوّنة كانت تكتب فيها وهي في الصف الثالث متوسط.
وجدت منشورًا بعنوان:
”ما ذنبهُ؟“
وفيه كتبت يومًا:
كنت أسمع ما جرى على الحسين، فبكيت، وبكيت، وبكيت… لم أكن أعرف لماذا، فقط شعرت أن شيئًا انكسر في قلبي، ولم يُرمَّم بعد.
توقفت سلوى، قرأت العبارة ثلاث مرات، ومسحت دمعة خفيفة تسلّلت دون استئذان. ثم أغلقت الهاتف… وصمتت.
منذ تلك الليلة، بدأت سلوى تحضر المجالس بهدوء… لا تشارك، لا تبكي كثيرًا، لكنها تمسك طرف عباءتها بقوة وكأنّها تتمسّك بشيء من نفسها القديمة.
في محرّم التالي، كانت تجلس في الصف الثاني، تهمس لمن بجانبها:
- ”تدرين؟ الحسين مو قصة… الحسين هو اللي ما يسمح لأرواحنا أن تموت تمامًا.“
بعض الناس يظنّون أن المجالس الحسينية تُقام لنروي أحداثًا قديمة، أو لنمارس طقوسًا محفوظة، أو لنُرضي دمعة مؤقتة.
لكن الحقيقة؟
أن المجالس الحسينيّة لا تُبكيك فحسب… بل تُعيدك وتُحييك.
تحييك وتعيدك لنفسك… لنقائك القديم… لذا يبكيها من كان سليم القلب، لا من كان كثير المعلومات.
يبكيها من تهشّمت فيه أمانيه، فوجد في العزاء دفئًا.
يبكيها من جفّ واقعه من الوفاء، فوجد في كربلاء نبعًا.
ما لا يعرفه بعضهم، هو أنّ الإمام زين العابدين - بصمته بعد الفاجعة والمجزرة، وسجوده الطويل، ودموعه التي لم تجف - لم يكن فقط ابن الحسين، بل كان صوتَ ما بعد الصمت، وتاريخَ ما بعد الذبح، وعينَ من لم يكن له عين.
هو الذي حمل كربلاء من أطراف الخيمة إلى أطراف الدنيا، من الأجساد المقطّعة إلى الأرواح المتّصلة.
فحين تبكي، اعلم أن تلك الدمعة لم تكن لك فقط، بل كانت لسرٍّ أودعه الإمام السجاد في الدهر، كي يبقى اسم الحسين حيًّا، لا يُنسى.
عندما يقول أحدهم: ”المجالس الحسينية لا تغيّر من الواقع شيئًا…“
ابتسم له كما فعل أبو هاشم، واسأله:
- ”هل غيّرك مجلس؟“
إن قال: ”نعم“ … قل له: ”يكفي واحد.“
وإن قال: ”لا“ … قل له: ”لا زال الطريق طويلًا، جرّب من جديد… هذه المرة افتح قلبك، لا أذنك فقط.“
”وجعٌ لا يُقال“
لأن بعض الأوجاع لا تُشرح، بل تُعاش.
وبعض الدموع لا تُفسّر، بل تهدي الطريق.
وبعض القلوب، لا تُقنَع بالكلام… بل تُمسّ بذكر الحسين، فتبكي وتشفى.
مأجورون ومثابون.
ورزقنا الله وإياكم دمعةً صادقة… لا على القصّة، بل على صاحبها.