حين ارتدى الصمت اسمي
حين ارتدى الصمت اسمي
نص نثري درامي فلسفي –
ليست كلّ اللقاءات تبدأ بكلمة،
بعضُها يبدأ عندما يسقط القناع...
وتتكشّف الذات في حضرة من لا يطلب شرحًا.
قناع الألفة
في وجوهٍ كثيرةٍ مررتُ بها،
بعضها نقوشٌ على الماء تمحوها أول ريح،
وبعضها ريحٌ في الفراغ لا تحمل سوى رائحة الوقت الضائع.
وجوهٌ كانت تسألني: من أنت؟
فأجيب بصوت مكسور: لا أدري... ربما أحد.
خيانة الوجه
في كل محطة،
كان هناك من يمد يده إليّ بقناع جديد،
يقول:
"البسي هذا، هكذا تكونين جميلة."
"البسي هذا، هكذا تكونين مقبولة."
"البسي هذا، هكذا أحبك."
أقنعةٌ من توقّعاتهم،
مصنوعةٌ بأيديهم،
محفورةٌ بأحلامهم عني... لا عني أنا.
لكن وجهي كان يرفض كل قناع يُقدَّم إليه.
كان يقاوم، يتململ،
يرفض أن يختبئ خلف ما ليس منه.
لم أكن أحاول أن ألبس ما يريدون،
لم أكن أسعى لأكون النسخة التي يتخيّلونها مني.
كنت أصرّ على أن أبقى أنا،
أن أُبقي وجهي عاريًا حتى لو احترق بنظراتهم.
شطب لا يشبه الرحيل
وكان الثمن... أنني بدأت أشطبهم، واحدًا تلو الآخر.
حين أدركت أنهم لا يرونني، بل يرون ما يريدونه أن يكون،
وحين شعرتُ أن البقاء بينهم يعني خيانة وجهي الحقيقي...
بدأتُ أنسحب بصمت.
لم أعد أرجو القرب، ولا أبرر الاختلاف.
كنتُ أنا... كما أنا،
ولم يكن فيّ ما يصلح ليكون نسخةً ترضيهم.
فتركتهم خلفي، كما يُترك القناع القديم بعد أن تنكشف الملامح.
حين صمتت الأسئلة
لكنك حين وقفت أمامي،
توقّف الزمن في عروقي،
وسكتت كلّ الأصوات في رأسي.
وقفت كلّ الأسئلة في حلقي،
وشعرتُ للمرة الأولى أن الصمت لا يعني الفراغ، بل الامتلاء.
لم أعرف:
هل أنت فجرٌ أم غروب؟
بدايةُ قصةٍ جديدة أم خاتمة لكلّ الحكايات التي عشتها؟
مرفأٌ أخير أم عاصفةٌ أخرى من عواصف القلب؟
نظرتَ إليّ نظرةً واحدة،
ورأيتُ في عينيك شيئًا لم أجده في أي مرآة من قبل:
رأيتُ نفسي كما أريد أن أكون،
لا كما يريدني الآخرون.
رأيتُ جميع كسورات روحي وهي تلتئم،
رأيتُ كلّ الندوب القديمة وهي تصبح نُجومًا على جلد الذاكرة.
موسيقى الكلمة الحبيسة
سألتني بصوتٍ يشبه الماء الجاري على الحصى:
"ماذا شعرتِ وأنا بجوارك؟"
ولم أعرف كيف أقول لك:
شعرتُ أنني نسيت كلّ خرائط النجاة
التي رسمتُها على مدى سنواتٍ من الخوف،
ودخلتُ صدرك...
لا دخول عاشقةٍ تبحث عن وطن،
ولا دخول تائهةٍ تبحث عن مأوى،
بل دخول من قضت عمرها في المنفى
ثم عادت إلى بيتٍ لا تعرفه لكنه يعرفها...
دون أن تطرق الباب،
دون أن تستأذن،
دون أن تبرر وجودها.
كأنما روحي وجدت صداها المفقود في أعماقك،
ذلك الصدى الذي ظلّت تبحث عنه في كلّ الأصوات.
شعرتُ أنني عارية من كل زيف،
من الأقنعة التي صنعتها من خوفي،
لا لأكون مقبولة، بل لأختفي.
كنت أمرّ بينهم كشبحٍ لا يُرى،
قناعي شفاف، لكنه أثقل من كل ما ارتديت.
وحين سقط، لم أعد أرتدي سوى نفسي الحقيقية،
تلك التي أخفيتها حتى عن نفسي،
تلك التي رفضت الزيف فاختارت العزلة.
لا قناع يحمي وجهي من الأحكام،
ولا جدران تبعدني عن نبضي.
كأنني كنت كلمةً حبيسة على طرف لسان الكون،
ووجدتَ أنت موسيقى لتحريرها،
لحنًا جعلها تنطق بوضوح لأول مرة.
وطن اللحظة الأبدية
شعرتُ أن كلّ الطرق الخاطئة التي سلكتُها،
كلّ الأشخاص الذين أحببتُهم ولم يحبّوني،
كلّ الأحلام التي تحطّمت،
كلّ الليالي التي بكيتُ فيها وحيدة...
كلّ ذلك لم يكن عبثًا.
كان مجرّد دروبٍ ملتوية تقودني إليك،
إلى هذه اللحظة بالتحديد،
إلى هذا المكان في قلبك الذي كان ينتظرني.
شعرتُ... أنني للمرة الأولى أنتمي.
لا إليك وحدك،
ولا إليّ وحدي،
بل إلى تلك اللحظة السحرية
التي ذابت فيها كلّ المسافات بيننا،
وصار ظلك منبسطًا في ظلي،
وصار تنفّسك يتماشى مع دقّات قلبي.
كأننا كنا قطعةً واحدة من نسيج الكون
تبحث عن نفسها منذ الأزل،
وأخيرًا وجدت.
شعرتُ أن الوقت لم يعد يُقاس بالساعات أو الأيام،
بل بالأنفاس المشتركة،
بالنظرات المتبادلة،
بالصمت الذي يحمل كل الكلام.
شعرتُ أن المكان لم يعد مجرد إحداثيات على خريطة،
بل صار ذلك الحيّز الصغير
بين روحي وروحك،
ذلك الفراغ الذي امتلأ بكلّ ما لم نقله.
وأدركت،
وأنا غارقةٌ في هذا الشعور الجديد،
أن الغريب لا يصبح مقيماً في مكانٍ معين،
ولا يجد وطنه في عنوانٍ محدد،
بل يجده في روحٍ تعرف كيف تستقبله...
دون كلام،
دون شروط،
دون أسئلة.
أدركت أنني لم أعد أبحث عن مكانٍ لأكون فيه،
بل وجدتُ أخيرًا من أكون معه...
وهذا يكفي لتحويل أيّ مكانٍ إلى وطن،
وأيّ لحظة... إلى أبديّة.