هدف جحفلي
بدايةً، أُحب أن أُنوّه بأن معلوماتي الكُروية محدودةٌ جدًّا—بل لعلّها تندرج ضمن تصنيف ”البلادة الممتازة“!
ومع ذلك، استوقفتني ذات يومٍ عبارةٌ يرددها أبنائي «هدف جحفلي» فيها ما يستفزّ الذهن، كأنها مشهدٌ درامي يُقلب فيه ميزان القوى في اللحظة الأخيرة.
فبعد أن اتكأتُ على عصا Google الغليظة، تبيّن لي أن هذا التعبير يعود إلى اللاعب السعودي محمد جحفلي، مدافع نادي الهلال، الذي دوَّن اسمه في ذاكرة الجماهير حين سجّل هدفًا حاسمًا في الدقيقة 119 من نهائي كأس الملك عام 2015 ضد غريمهم التقليدي، نادي النصر.
هدفٌ أعاد الهلال إلى أجواء المباراة بعد أن كانت تُشارف النهاية، ومهّد الطريق لفوزه لاحقًا بركلات الترجيح، ومنذ ذلك الحين، لم يعد ”جحفلي“ مجرد اسم عائلة، بل تحوّل إلى مجازٍ ثقافي يُستَحضر كلّما وقع انقلابٌ مباغت في اللحظات الأخيرة—سواء في الملاعب أو خارجها!
وهنا يطلّ السؤال من بين السطور، لا «يسدح» نفسه فحسب، بل يتمدد بثقة على بساط التاريخ:
هل لحالة ”الجحفلة“ —إن صحّ التعبير—جذورٌ في الذاكرة الإنسانية؟
الجواب: نعم، وبكل تأكيد.
يكفي أن نستحضر قصة الحرّ بن يزيد الرياحي رضوان الله عليه، أحد قادة جيش الكوفة، الذي خرج لمواجهة الإمام الحسين ، ثم انقلب في اللحظات الأخيرة من يوم عاشوراء، ليلتحق بركب الإمام الحسين
ويُسطّر بذلك ”جحفلة“ أخلاقية خالدة.
ومثالٌ آخر.. نكبة البرامكة، حيث تمّت ”جحلفتهم“ سياسيًّا وإداريًّا في ليلةٍ واحدة؛ إذ أُطيح بهم من علياء سلطانهم إلى هاوية النسيان، بعد أن كانوا في قلب الدولة العباسية، فصاروا رمزًا لـ ”جحفلة“ سياسية مباغتة، انقلبت فيها المعادلات من دون مقدّمات.
ولأن المجاز الشعبي لا يعيش إلا إذا وجد له جذورًا في الحكمة، نجد في تراث أهل البيت ما يُسند هذا التحذير من الانقلاب المباغت:
• فعلى صعيد العلاقات الشخصية، ورد عن الإمام علي :
«أحبب حبيبك هَوْنًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هَوْنًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»
وكأنه يُحذّر من الانجرار وراء العاطفة دون وعي لاحتمالات «جحفلة» التقلّب.
• وعلى صعيد الحال الشخصي، قال :
«لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية والغنى؛ بينا تراه معافًى إذ سقم، وبينا تراه غنيًّا إذ افتقر.»
وكأن الجحفلة قد تكون في الجسد كما في الجيب!
ويختم الإمام الشافعي هذا المعنى بحكمة شعرية خالدة:
تاهَ الأُعَيرِجُ وَاِستَعلى بِهِ الخَطَرُ
فَقُل لَهُ خَيرُ ما اِستَعمَلتَهُ الحَذَرُ
أَحسَنتَ ظَنَّكَ بِالأَيّامِ إِذ حَسُنَت
وَلَم تَخَف سوءَ ما يَأتي بِهِ القَدَرُ
وَسالَمَتكَ اللَيالي فَاِغتَرَرتَ بِها
وَعِندَ صَفوِ اللَيالي يَحدُثُ الكَدَرُ
ف ”الجحفلة“، إذًا، ليست مجرد هدفٍ متأخر في مباراة، بل هي تنبيه وجودي دائم: لا شيء يُؤخذ على ضمانته، لذلك الحذر الحذر من جحفلة القدر.