آخر تحديث: 30 / 7 / 2025م - 3:00 ص

الإنسان قبل الهوية: جدلية الظل والجوهر

المنتج والبراند في مرآة الذات

عبير ناصر السماعيل *

قبل ألفي عام، غمس الشاعر الروماني أوفيد ريشته في حبر الأسطورة وكتب ملحمته الخالدة ”التحولات Metamorphoses“ يبدو أن أوفيد كان يدرك بفطرته الشعرية أن التحول هو القانون الأبدي للوجود، وأننا جميعاً كائناتٌ في طور التكوين المستمر.

وهذا هو جوهر رحلتنا الإنسانية. إنها رحلة مستمرة يحل فيها نور البصيرة محل ما كان يبدو ضبابياً، فندرك أن بعض القناعات أو الطرق التي كانت صالحة بالأمس، لم تعد هي الأنسب لنا اليوم. وهنا، لا يكون الخيار هدم القديم بقدر ما هو تجاوزه والبناء عليه، لنصيغ مفاهيماً أكثر نضجاً وعمقاً، سواء في قيمنا الشخصية أو في مساراتنا العملية.

وكوني أنتمي إلى هذه البشرية المتحولة، تأتي عليّ أيامٌ يجتاحني فيها هذا الإدراك بعمقه. في تلك اللحظات، أجد نفسي أنهض مع خيوط الشمس الخجولة التي تتسلل لستائر غرفتي الشبه معتمة، ويتحرك جسدي ببطء نحو المرآة. هناك، أقف مجردة من كل أدواري - كابنةٍ، أو أختٍ، أو صديقة. أقف ك ”إنسانة“ في صورتها الأولى، كجوهرٍ خام يتنفس خلف الضلوع قبل أن تكسوه طبقات التعريفات. أحدق في عينيّ طويلاً، وأسأل بصوتٍ لا يسمعه سواي: ”من أنا... الآن؟“

هذا السؤال الوجودي، ”من أنا الآن؟“، لم يعد مجرد همسٍ فلسفي، بل وجد له صدى عملياً حين طَرَقَ باب عقلي مقالٌ لافت [1]  للمبدع علي الجماعي، الذي سأل بعمقٍ مهني: ”أبدأ مشروعي بالمنتج أم البراند؟“. وكأن سؤاله كان شرارة أشعلت نار التأمل في داخلي، فوجدتُ تقاطعاً مدهشاً بين عالم المال والنفس البشرية. فالمنتج هو الإنسان في جوهره الخام. والبراند هو هويته التي يقدمها للعالم.

الحالة الأولى: الإنسان ك ”منتج“ في مرحلة التكوين ”Minimum Viable Person“

كما أشار الجماعي، حين تبدأ مشروعاً صغيراً، فإن كل التركيز ينصب على جودة المنتج الأساسي. وهذا المبدأ لا يختلف في جوهره عن أعظم مشروع يُعهد به إلينا: الإنسان في نشأته الأولى.

حين يولد طفل، فهو أشبه بمادة خام ثمينة، تدخل إلى ورشة الحياة. والسنوات الأولى هي مرحلة التكوين، عملية الصقل البطيئة والدقيقة التي يتشكل فيها هذا الجوهر. إنها مرحلة بناء ”نظام التشغيل“ الداخلي - المبادئ، الأخلاق، النواة الروحية - قبل تثبيت أي ”تطبيقات“ خارجية كالمنصب أو الصورة الاجتماعية. إنه التركيز على ”المنتج“ في أنقى صوره، حيث لا تكون التربية بالتلقين، بل بالقدوة الحية التي تُرى وتُعاش.

وهذا يذكرنا بأعظم نماذج التربية، حين كانت السيدة فاطمة الزهراء تعدّ أبناءها لما هو قادم، لم تكن تبني ”براند“ احفاد النبي، بل كانت تصقل ”منتجاً“ إنسانياً فريداً، وتعدّهم لحمل الرسالة. إنها التربية التي تركز على الجوهر، على الأصل الذي لا يتغير، كما قال الإمام علي : ”أصل الرجل لبه، وحسبه خلقه، وكرمه تقواه“ ”نهج البلاغة“. فهذه هي مكونات الإنسان الأصيل الذي تحكمه الحقيقة الإلهية المطلقة، حقيقة ”تزكية النفس“ التي جعلها القرآن الكريم معياراً للفلاح الأبدي: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ”سورة الشمس، الآية 9“.

والعجيب أن صدى هذه الحكمة الإلهية والولائية يمكن أن نلمسه حتى في كتابات حكماء البشر عبر العصور، الذين حاولوا الوصول للحقيقة باجتهادهم. فها هو أرسطو قبل الإسلام بقرون، يرى في ”أخلاق الفضيلة“ أن أساس الحياة الطيبة ليس في المظاهر، بل في بناء شخصية فاضلة من الداخل.

هذا الإنسان ”المنتج“، الذي صُقلت فطرته بالقيم وتزكت نفسه بالتربية الأصيلة، يصبح قادراً على بناء أي ”براند“ ناجح وصادق في المستقبل، لأن أساسه متين وجوهره أصيل.

الحالة الثانية: ”البراند“ الذي يسبق ”المنتج“

في المقابل، هناك استراتيجية مختلفة تماماً أشار إليها الجماعي، وهي أن تبدأ كبيراً وقوياً منذ اليوم الأول عبر إطلاق ”براند“ متكامل بهوية راسخة ورؤية عملاقة. لكن يجب أن نعي أن هذه القوة الأولية ليست وهماً، بل هي انطلاقة مدروسة تستند إلى مصدر قوة حقيقي. فغالباً ما تكون مرتبطة بـ ”براند أم“ راسخ يمنحها الثقة والمصداقية؛ فمشروع ”نيوم“ يستمد قوته من رؤية دولة بأكملها، و”stc pay“ انطلقت من عباءة شركة الاتصالات العملاقة. وأحياناً، تأتي القوة من مصدر مختلف، كتلبية حاجة ماسة في المجتمع أو من اختراع فريد أو رأس مال ضخم.

ومن هذا المبدأ نعكسه على الإنسان، فهو يقف على أساسات ويستند على ركائز قوية تتمثل في التربية الأصيلة، والعلم الراسخ، والمجتمع الداعم، والثقافة العميقة. هذه الركائز هي بمثابة ”البراند الأم“ الذي يمنح الفرد هويته الأولية القوية وثقته بنفسه.

وهنا يأتي الدور الجوهري للوالدين والمربين في تحديد طبيعة هذه الأعمدة التي تُشاد؛ فمتانة هذه الركائز أو وجود أي خلل فيها لا يحدد قوة الهوية أو ضعفها بالضرورة، بل يحدد نوعها وتوجهها، ومدى انفتاحها أو انغلاقها على العالم، وشكل الصراع الذي ستخوضه لاحقاً. إنها الحكمة التي لخصها الفيلسوف أرسطو حين قال: ”نحن ما نكرر فعله. إذن، فالتميز ليس فعلاً، بل عادة“. فالهوية القوية ليست حدثاً مفاجئاً، بل هي نتاج بناء متكرر وعادات مترسخة، سواء كانت هذه العادات قد غرست في بيئة داعمة، أو تم اكتسابها في مواجهة التحديات.

التحدي هنا هو أن يكون ”المنتج“ - أي جوهر الشخص وقدراته - على قدر هذه الهوية الصلبة التي شُيدت له، وأن يحافظ عليها ويصقلها، لكي لا يصبح ”برانداً“ فارغاً من جوهر حقيقي.

الخاتمة: رقصة الجوهر والظل

إذن، بعد كل هذا التحليل، نعود للسؤال الأول: الإنسان أولاً أم هويته؟ المنتج أم البراند؟ يبدو أن الجواب ليس اختياراً حاداً بين قطبين، بل هو فهمٌ لرقصةٍ أبدية؛ رقصة ”الجوهر“ و”الظل“.

”الجوهر“ هو المنتج الحقيقي الذي هو نحن؛ فطرتنا، قيمنا، معرفتنا، روحنا. و”الظل“ هو البراند الذي نلقيه على جدران العالم؛ الهوية التي تعرفنا بها الحياة.

فالإنسان الذي يبدأ صغيراً، يسمح لجوهره بأن يقود الرقصة، فيتشكل ظله على مهل، صادقاً ومتناغماً مع كل خطوة. أما من يبدأ كبيراً، فيجد أمامه ظلاً هائلاً مرسوماً مسبقاً، ويصبح تحديه الأكبر أن ينمّي جوهره بسرعة وقوة ليمتلك هذا الظل ويقوده.

لكن هنا، في قلب هذه الرقصة، يثور سؤال أخير وحارق: إلى أي حدٍّ يعتبر هذا التغير في هويتنا مقبولاً؟ من الذي يضع الحدود؟ وكيف نقيس أصلاً ما إذا كنا قد تجاوزناها؟ هذه ليست مجرد أسئلة شخصية، بل هي أزمة العصر الحديث التي وصفها الفيلسوف زيجمونت باومان بمفهوم ”الحياة السائلة“. ففي نظره، نحن نعيش في عالم لم تعد فيه الهويات صلبة، بل ”سائلة“، تتشكل باستمرار بلا وجهة نهائية. وهذا يجعل أسئلتنا أكثر رعباً: في هذا العالم السائل، كيف يمكن للمرء أن يعرف إن كان يسبح مع تيار النمو أم ينجرف نحو الضياع؟ هل كل تغيير هو تطور؟ أم أننا في بحثنا الدائم عن هوية جديدة، نفقد أنفسنا القديمة دون أن نجد الجديدة حقاً؟

أسئلة تظل مفتوحة، تتردد أصداؤها في الفراغ بين الجوهر والظل، بين ما نحن عليه وما يمكن أن نكون.

خاتمة الخاتمة

ومع آخر قطرة حبرٍ تسقط من قلم هذا المقال، أجدني لم أغادر مكاني حقاً. أجدني أعود إلى هناك... إلى المواجهة الأولى والأخيرة، أمام صمت مرآتي الأبدي.

فالكتابة، في جوهرها، هي تلك المحاكمة السرية التي أعقدها مع ذاتي. مع كل جملةٍ تتشكل، وكل فكرةٍ تتعرى، أطرح على نفسي السؤال الأزلي من جديد: هل سأسمح لدفء ”المنتج“ الذي هو أنا، بالظهور بكل تعقيداته وصدقه، أم سأكتفي ببريق ”البراند“ المصقول بعناية ليحميني من قسوة الأنظار؟

إنه ليس صراعاً بين الشجاعة والحذر فحسب، بل هو اختيار وجودي بين أن أُعرف على حقيقتي، أو أن أُشاهد بصورة مثالية. اختيار بين ظلٍ يتبع جوهراً حياً، أو ظلٍ جميل يسير وحيداً في العراء.

وهذا النص الذي سافرتَ بين سطوره، بكل ما فيه من بوحٍ وتردد، ليس مجرد مقال.

إنه أثر تلك المواجهة الصامتة.

إنه ”البراند“ الذي اخترتُ أن أكونه... هذا الصباح.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
رضا آل ربيع
20 / 7 / 2025م - 3:12 م
“الجوهر والظل”… ما أروعك. استخدمت استعارة شعرية تبني عليها نصا تحليليا عميقا! قليل من الكتاب من يستطيعون قول أشياء معقدة بلغة محببة وسلسة بهذا الشكل.
2
عبد المحسن النغموش
20 / 7 / 2025م - 7:21 م
حبيت تشبيهك للطفل ب MVP من عالم المشاريع. خلى التربية تبدو كأهم استثمار فكري وروحي نقدر نشتغل عليه كبشر.
كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة