نحو مجتمعات متحابة
ثمّة تصوّرٌ شائع مفاده أن القانون قادر، بمفرده، على بناء مجتمع متماسك ينعم أفراده بذات الحقوق والواجبات. ويُفهم من هذا التصوّر أن وجود قانونٍ محكم يعني أننا بلغنا المحطة الأخيرة في مسيرة بناء المجتمع الحقيقي. لكن هذا التصوّر، في نظري، يقدّم حقيقةً ناقصة. نعم، إنه يعكس جانبًا من الواقع، لكنه يفتقر إلى ما يمكن أن نُسميه: الروح الفاضلة. تلك الروح التي ترى الإنسان كائنًا حرًّا، عاقلًا، قادرًا على اختيار أفكاره ما دام لم يتجاوز حدود القانون العام. إن اقتران القانون بتلك الروح هو ما يرشّد السلوك، ويهذّب العلاقات الاجتماعية، ويمنع تلك النظرة المتعالية التي تبيح لفئةٍ ما أن تحتكر الحقيقة، وتستصغر المختلف، وتنزع عنه حقّه في التفكير أو التعبير، بل قد تجرّده من إنسانيته باسم امتلاك ”الحق كل الحق“، وربما يصل بها الحال إلى الإقصاء في كافة نواحي المعاملات الإنسانية.
يمنح القانون المجتمع نظامًا عامًا يضبط حركة الأفراد، كتنظيم المرور، ومحاسبة الجناة على قدم المساواة، دون تفرقة. لكنّه، على الرغم من ضرورته، يقف عاجزًا أمام الجرائم النفسية الناعمة التي تمارسها بعض الفئات ضد أخرى، ضمن نطاقٍ لا يُعدّ خرقًا صريحًا للقانون. فالقانون لا يمنع صاحب شركة من استبعاد شريحة معيّنة من التوظيف أو الترقية، ما دام ذلك يُمارس تحت غطاء إداري مشروع. ولا يمنع التلميحات المتكررة التي تَسري في المجتمع، مشيعةً أن ”الآخرين“ ليسوا على الطريق المستقيم، وأن ”كُره أهل الباطل من تمام الإيمان“؛ والمشكلة هنا ليست في المبدأ نفسه، بل في التوسّع في تصنيف الناس ضمن ”أهل الباطل“، حتى يشمل ذلك كل من خالفنا الرأي، ولو عن اجتهاد أو حسن نية. كذلك لا يمنع القانون الخطابات التي تُقدَّم على هيئة معادلات فكرية مختزلة، تدفع المتلقي لاستنتاج من يستحق القبول، ومن يُفترض أن يُنبذ، ضمن سلوكٍ لا يُصنّف قانونيًا كجريمة، لكنه يزرع في المجتمع روحًا تصنيفيةً باردة، تنزع عن الآخر إنسانيته، وتُضعف روح التعاطف معه. من هنا، يصبح الحديث عن القانون بوصفه الأداة الوحيدة لبناء المجتمع الفاضل مغالطة خطيرة، أو على الأقل سوء فهم لطبيعة القانون وحدوده الأخلاقية والوجدانية. وحسبك مثالًا: التفرقة العنصرية ضد السود، التي تضجّ بها مجتمعاتٌ تنعم بقوانين يُفترض أنها من ذروة ما بلغته الحضارة من عدالة.
في تصوّري، إن صناعة الروح الفاضلة تبدأ من بناء إعلامٍ مؤثّر، يُرسّخ قواعد تفكيرٍ سليمة تُقلّص من الأنانية الفكرية. تلك الأنانية التي تُوهم صاحبها بأنه وحده المستحق لخيري الدنيا والآخرة، لأنه - كما يرى - على الحق المبين، ومن خالفه فقد ضلّ وابتعد عن سواء السبيل. لا يمكن لمجتمع متحاب أن ينشأ بينما تُكرَّس تصنيفات تُصوّر المخالف وكأنه يعاند الحق عمدًا، ويختار الباطل عن وعيٍ وتحدٍ، وتُنزع عنه أهلية التفكير والنية الطيبة. لسنا بحاجة إلى أن نتنازل عن قناعاتنا أو نطلب من الآخر تبنّي معتقداتنا، بل أن نُدرك أن كل إنسان يقف حيث قادته بيئته وموروثه وتجربته، وأنه - كما نرى نحن أدلتنا بيّنة - يرى هو أدلته كذلك. الاعتراف بأن الحق ليس حكرًا في التعبير، وأن المنطق ليس حكرًا في الفهم، هو الخطوة الأولى نحو عقلٍ يُنصف ويحتوي، ويحترم حقّ الآخر في أن يكون كما هو دون أن نُجرّده من أهلية التفكير. هذا، كما أظن، هو النصف الآخر من بناء المجتمع المتحاب. أما الاكتفاء بالقانون لبناء مجتمع حقيقي، فهو - في تقديري - وهمٌ كبير، وتجاهلٌ للنصف الأهمّ من الإنسان: قلبه وروحه.